Culture Magazine Thursday  10/05/2012 G Issue 373
فضاءات
الخميس 19 ,جمادى الآخر 1433   العدد  373
 
غازي القصيبي (2)
سيمون نصار

 

أجزم، كما قالت لي الصديقة الفرنسية بلغتها الناعمة والحاسمة، أن القصيبي لم يقرأ بما يكفي أدبياً. كانت، هذه الصديقة التي تعلمت العربية وتعمل في الأنثروبولوجيا وقرأت كتب غازي القصيبي، تقصد أن قراءة القصيبي نقدياً لم تتم بالمعنى الأكاديمي الحقيقي. وأشارت مستغربة «ذلك على الرغم من أنه وصل الى رتبة وزير في أكبر بلد عربي والأهم على مستوى العالم لجهة إنتاجه النفطي».

لم ينته الحديث مع أدلاييد لا بيار (هذا هو اسمها) بل تشعب إلى الخصل التي كان يتمتع بها القصيبي، متميزاً فيها عن غيره من بعض الكتاب العرب، الذين يأتون إلى عاصمة النور، مع مؤلفاتهم ويدفعون أموالهم، من أجل ترجمتها إلى لغة موليير. لكنها مع ذلك تبقى أوراقاً مصفوفة إلى جانب بعضها البعض ولا يأبه أحد لها، وتبقى كما هي في اللغة الأم كذلك في اللغة الجديدة. مؤلفات غير ذات قيمة وبلا معنى. ولا يلتفت إليها أحد. اللهم سوى صاحبها الذي يشتري منها نسخاً عديدة ليبرهن من خلالها على أهميته الأدبية والفكرية، وكيف أنهم في مدينة الأنوار وقفوا بالطوابير من أجل شراء نسخة، تماماً، كما يشترون الخبز. عدا طبعاً عن الادعاء بأن دار النشر، وظفت سكرتيرة من أجل المراسلات لإقناعه بالتواضع والقبول بالترجمة. البعض من هؤلاء يدعي، أحياناً، أنهم دفعوا له مبالغ طائلة وسامحهم لأنه غير محتاج وأن (الله الغني) كما يذكر حرفياً المثل الشهير.

كان القصيبي مسئولاً كبيراً في بلده. وفوق هذا، كان كاتباً لامعاً ومشهوراً جداً. وكان من الممكن، جداً، بسبب المناصب التي شغلها، والعلاقات الكثيرة، التي نسجها في كافة أنحاء العالم، أن يترجم ما أصدره من كتب بسهولة، فلم تكن تنقصه لا الحنكة في شبك العلاقات ولا القدرات المالية على الدفع لأي مترجم أو دار نشر بين دفتي المحيط من أجل ذلك. مع هذا، آثر، هذا الرجل، أن يستثمر كل هذه العلاقات وكل التقدير الذي حظي به من أجل خدمة بلده. البلد الذي كتب عنه الكثير والذي يتجاوز في كل شيء غازي الشخص.

قالت أدلاييد إنها تعرفت بغازي القصيبي في لندن، بعد أن قدمها له أحد الأصدقاء. الباحثة المهتمة جدا بالشرق الأوسط. تعتبر أن ما كتبه القصيبي من أدب تسجيلي يعتبر كنزاً كبيراً لفهم هذه المنطقة المجزأة بحسب الفهم الأسطوري للعقلية الاستعمارية. وأن الفترة التي عاش في خضمها في الخمسينات والستينات كطالب وناشط كانت غنية بما يكفي لتنز حبراً صافياً وقصصاً وأفكاراً كثيرة. بينما كانت الفترة الوظيفية قد صهرت ذلك الرجل الذي يختزن الكثير ليكون دقيقاً بما يكفي، لا ليقول الكثير بل ليصمت عن الكثير الكثير.

الخصلة، التي نتحدث عنها عند غازي القصيبي، وهي الكبر - بكسر الكاف - والترفع عن إستخدام منصبه وأمواله لخدمة نصوصه وكتبه، خصلة نادرة عند معظم الكتاب العرب الذين يطمحون للعالمية، حتى لو كانت كذباً وبهتاناً. فها هو أحد كبار الكتاب العرب أدونيس يزحف يومياً في أفكاره وكتاباته من أجل الحصول على الجائزة العالمية الأهم، وهو الذي يعتبر «حصالة جوائز» كما عبر أحد الأصدقاء قبل سنوات. لكن هذا كله غير مهم. بل المهم، والذي ربما، كان أحد قناعات غازي القصيبي، أن يجلس قارىء ما، في مكان منزو ما، وحيداً يستمتع بما بين يديه من أوراق محشوة بأفكار تحتاج في كثير من الأحيان الى قدرات هائلة على فك شفرتها والطلاسم. الجائزة الأهم والترجمة الأهم، هي تلك التي الكلمات التي تدخل إلى عقل قارىء ما وتغيره من الداخل، تحفر لنفسها مكاناً في عقله وفي قلبه وفي سلوكه الحياتي. ولا أعتقد أن من بين قراء القصيبي الكثر من لم يصب بهذه الأعراض الوجدانية.

أتحدث دوماً عن القصيبي دون أن أراه، لم أعرفه شخصياً، ولم ألتق به يوماً، لكني التقيته من خلال الكلمات، وهذا عزاء لي. كما التقيته من خلال الأصدقاء، فكلما كان صديقي يحيى أمقاسم في باريس يحدثني عنه، خصوصاً في فترة مرضه ومكوثه في تلك الغرفة البيضاء القاحله الخالية إلا من حب أهله وأصدقائه وزملائه، كنت أدرك أن هذا الرجل، الذي ترك آثاره متناثرة في مكتبات عديدة وفي منازل وبيوت وبين أيدٍ كثيرة. لا يهده مرض ولا تهزمه سكرات الموت.

بالعودة الى أدلاييد لا بيار، التي قرأت كل ما كتبه القصيبي بالعربية وكذلك كل ما كتب عنه، قالت لي قبل أن يضعنا القطار في أمستردام، ويشق كل واحد منا طريقه. قالت، تذكر هذا يا صديقي. لقد قرأت كل ما كتب القصيبي في عربات المترو والباصات وكان هذا الرجل الذي غاب عنا اليوم، يأخذني في تلك الأماكن المكتظة بالبشر عادة إلى أمكنة ما زلت لغاية اليوم لا أعرفها إلا في كتبه ولا أراها إلا في الأحلام التي تركتها لي هذه الكتب.

رسالة صغيرة الى المهتمين بالشأن الثقافي في المملكة.

يحق لغازي القصيبي أن تعلن جائزة باسمه أو أن يفتتح مركزاً ثقافياً يحمل اسمه أو مكتبة عامة. عدا عن حقه بإعادة نشر كتاباته كاملة وبطبعة محلية فاخرة.

باريس s.m1888@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة