Culture Magazine Thursday  11/10/2012 G Issue 383
فضاءات
الخميس 25 ,ذو القعدة 1433   العدد  383
 
وفيك انطوى العالم الأَكبر
وائل القاسم

 

يقرأ الإنسان أحياناً حواراً أو مقالاً أو كتاباً، فيخرج منه بجملة أو فقرة يلتقطها كما يلتقط الصياد سمكة بسنارته، فترسخ في ذهنه تلك المقولة وتتغلغل في أعماق عقله. وينتج غالباً عن تفكيره العميق في هذا الصيد الذي خرج به كثير من الأفكار والتأملات المتشعبة، ولاسيّما إذا كان ضيف ذلك الحوار أو كاتب تلك المقالة أو مؤلف ذلك الكتاب محبوباً عند القارئ، أو شديد التأثير عليه.

وهذا ما حدث معي وأنا أقرأ الحوار الذي أجراه الزميل العزيز عبدالله وافيه في صحيفة «الحياة» قبل أيام، مع أستاذنا القدير الدكتور إبراهيم التركي، فقد استوقفني مليّاً قول أبي يزن في آخر ذلك الحوار الماتع: «يضيع وقته من يظن الانتماءات الثقافية ذات حدودٍ فاصلةٍ قاطعةٍ مانعة».

نعم، إن الإنسان -رغم أنفه- خليط من تراكمات معقدة عويصة مختلفة المشارب، سواء في موضوع الانتماءات الثقافية التي تحدَّث عنها الدكتور، أو في غيره من الانتماءات، بل وفي غير موضوع الانتماءات من المواضيع المشابهة الكثيرة.

انظروا إلى دقة وجمال قول الأول:

وتَزْعُمُ أَنَّكَ جِرمٌ صَغيرٌ

وَفيكَ انطَوى العالَمُ الأَكبَرُ

فَأَنتَ الكِتابُ المُبِيْنُ الَّذي

بِأَحْرُفِهِ يَظهَرُ المُضْمَرُ

فكيف لمن ينطوي في داخله عالمٌ كبيرٌ أن يكون منتمياً انتماءً كاملاً أو منتسباً انتساباً تاماً له حدودٌ فاصلة قاطعة مانعة، تفصله عن غيره، وتمنعه من التأثر بالانتماءات أو الانتسابات الأخرى؟

كلا كلا.. إنه ليس عالماً واحداً بل عوالم معقدة متشابكة، منها الفسيولوجي ومنها السيكولوجي، تتصارع في أعماقه.. تتصارع في أعماقه معلومات وعادات وعقائد وتقاليد ومواقف وذكريات ومعارف ونوازع ورغبات وشهوات وطموحات وأحلام وأفراح وأتراح وصدمات ومشاهد وقراءات وتجارب ونجاحات وإخفاقات وتساؤلات لا تنتهي، وشكوك دفينة في أشياء كثيرة، مهما زعم أنه ينتمي انتماء كاملاً مستقلاً أو يؤمن إيماناً يقينياً قاطعاً بمذهب أو منهج معين لا يحيد عنه قدر أنملة.. كيف لهذا الإنسان الذي يحمل في داخله كل ما ورد أعلاه أن يكون منتمياً انتماء تفصله عن غيره من الانتماءات أسوارٌ عالية شديدة التشييد والتحصين؟!

لعمري إن هذا لهو المحال الأكبر الذي لا يمكن حدوثه -في رأيي- مهما قالوا ورددوا وكرروا وأقسموا.

وما أجمل قول الشاعر أيضاً في الأبيات السابقة: «كتاب مبين». فكيف يكون الإنسان كتاباً مبيناً؟! هل يمكن أن يكون الإنسان مشابهاً للكتاب المبين؟

دعوني أستطرد قليلاً وأبحر بخيالي في تلك الصورة البلاغية: الإنسان كالكتاب الكبير الذي يضم آلاف الصفحات، وكل صفحة من صفحاته يوم من أيام عمره، وكل سطر في الصفحة هو موقف مر به، أو معلومة اكتسبها، أو تجربة خاضها، أو حدث تأثر به في ذلك اليوم.

والناس الذين يقابلون هذا الإنسان أو يستمعون لحديثه أو يقرؤون ما يكتبه أو ما يرسمه أو غير ذلك من صور التعبير هم القراء لهذا الكتاب المبين؛ ولذلك عندما يتعرف الواحد منا على صديق أو زميل جديد مثلاً، فإنه لن يتمكن من الحكم عليه أو التعامل معه بسهولة بسرعة، بل لابد من قضاء أوقات طويلة في تأمل عدد من الصفحات المعقدة في كتاب ذلك الإنسان، فقد تعجبك اليوم صفحة من صفحاته، وتصدمك أو تزعجك غداً صفحة أخرى!

الإنسان عامة والمثقف خاصة في كل يوم جديد هو نتيجة جديدة لما مر به من المعلومات والمواقف في الأيام السابقة لذلك اليوم؛ ولهذا تتغير توجهات الناس وأفكارهم وقناعاتهم بين الحين والآخر، كما أشرت في مقالي السابق، الذي نشر الخميس الماضي تحت عنوان: «جربوا أن تتغيروا» فكلما زاد الاطلاع وزادت المعلومات والتجارب التي تمر بالإنسان زادت معها تحولاته وتقلباته الثقافية والفكرية وغيرها من التحولات.

كم وكم صديق سمعته يقول: أنا أنتمي بشكل كامل لهذه الطائفة أو لهذا التيار أو لتلك الحركة أو لذلك الحزب، ثم أكتشف من خلال معاشرته وكثرة الاستماع لحديثه ومتابعة أفعاله أنه يحمل من الأفكار ما يتناقض جزئياً أو كلياً مع أصول أو تعاليم أو مفاهيم ذلك الحزب أو المذهب الذي يزعم الانتماء أو الانتساب إليه?

أعود للتحوّل، فقد يكون تحول الإنسان كاملاً في الظاهر، كانتقاله من دين إلى دين، أو من مذهب عقدي أو فقهي أو منهج فكري إلى مذهب أو منهج آخر؛ ولكنه في هذه الحالة لابد أن تبقى لديه كثير من رواسب دينه أو مذهبه أو منهجه الأول، مهما حاول أو زعم التخلص منها، وسيكتشف الآخرون ذلك بمجرد متابعة أقواله وتصرفاته بدقة.

وقد يكون التحوّل كبيراً ولكن ليس كاملاً، وقد يكون طفيفاً لا يلاحظه الناس عليه بسهولة، بل قد لا يلاحظه هو على نفسه أيضاً في بعض الأحيان.

وقس على ذلك مثلاً الانتماءات القبلية أو الأسرية أو المناطقية، فنلاحظ كثيراً على الإنسان الذي ينتمي إلى قبيلة أو أسرة أو منطقة معينة، أنه ينطق ببعض المفردات الخارجة عن لهجة قبيلته أو أسرته، أو يمارس بعض العادات التي لا يمارسها الناس في محيطه الاجتماعي، والسبب أنه تأثر بإنسان آخر أو بمجموعة أفراد آخرين من قبائل أو مناطق أو دول أخرى، سواء شعر بذلك أم لم يشعر.

الإنسان يتأثر بكل شيء.. الإنسان في يومه ليس إلا خليطاً من تأثراته السابقة بالبشر، الذين خالطهم أو قرأ أو استمع لهم في أمسه، والإنسان في مستقبله ليس إلا خليطاً معقداً من تأثراته بآخرين في أمسه ويومه.

ويتأثر الإنسان بغير البشر أيضاً، كتأثره بالطبيعة المحيطة به وبمناخ وتضاريس بيئته، وبالكائنات الحية المختلفة التي يقضي معها أو بقربها أوقاتاً طويلة، وقد يكتشف أحدنا إذا تأمل جيداً تصرفات بعض المخالطين لأنواع معينة من الكائنات الحية، أنهم يمارسون في حياتهم بعض السلوكيات والأعمال التي أخذوها من تلك الكائنات.

الخلاصة هي: لا يوجد انتماء كامل في نظري إلى أي شيء.. ولا يوجد شخص يتطابق مع شخص آخر في كل الأفكار والقناعات، بمختلف صورها وأنواعها.

انظروا للموضوع من هذه الزاوية أيضاً: الفيلسوف غالباً هو نتيجة تراكمات أخذها من فلاسفة سبقوه، فتصارعت وتمازجت في أعماقه ثم تبلورت فخرج لنا بفلسفته الجديدة، وكذلك الشعراء والكتّاب وغيرهم، بل والأنبياء أيضاً وغيرهم من رجال الأديان، فقد قضيت سنوات طويلة من عمري باحثاً في العقائد والملل والنحل، وخرجت من ذلك بنتيجة مفادها: أن غالب العقائد في مختلف مناطق العالم ليست إلا خليطاً من عقائد سابقة، وأن كل منهج ديني روحاني هو خلاصة اختيارات صاحبه من المذاهب العقائدية الروحانية التي سبقته، أو التي عاصرها في مراحل متقدمة من حياته.

وتجدر الإشارة في الختام إلى أن كثيراً من الانتماءات ليست نتيجة قناعات حقيقية ناضجة صادقة، بل نتيجة احتياج إلى الحماية أو المساندة أو المنفعة أو الدعم، أو غير ذلك من الاحتياجات التي تجبر الفرد على تصنّع الانتساب إلى مجموعة بشرية معينة ذات نسق أو نظام يربط أفرادها بعضهم ببعض.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة