Culture Magazine Thursday  12/04/2012 G Issue 369
فضاءات
الخميس 20 ,جمادى الاولى 1433   العدد  369
 
العقل المجرد وتأويل النص الديني
عبدالله السعوي

 

الممارسة التأويلية يتعذر أن تكون ذاتية بالمطلق، أي أن يتحرك فعل التأويل على ضوء التجربة الذاتية الخاصة لهذا الفرد أو ذاك، ذلك لأن الحركة التأويلية حتى في أدنى صورها خاضعة بشكل أساس لذلك الإطار الذي جرتْ رسم ملامحه نصيا وتَطابق أولو الاختصاص على فهْمٍ موحّد وتكوين رؤية يجري التقاطع على جلّ معالمها.

في بعض السياقات بات تأويل النص الديني - آية أو حديثا - ليس إلا كلأ مباحا يجري انتهاكات ما ينبغي أنه تحت شعار حرية العقل على نحو أفسح المجال لظهور مقاربات تأويلية تقفز على الاشتراطات الحاكمة لحركية التأويل.

إنه ليس من السائغ أن ينبعث التأويل انطلاقا من أفق رغبوي ولا انطلاقا من إيحاءات القبيلة الثقافية التي تتلبس العقل ويتلبس بظلالاتها ويفنى بها عن غيرها إلى درجة أنه قد يخيل لصاحبه أن هذا هو الحكم الذي لا مناص أمام العقل إلا الصيرورة إلى موجباته.

إن القيمة التأويلية تتباين والأحكام المنبثقة من فعل التأويل ليست على درجة واحدة وليس من المبرر- كما هو حال كثير من المعالجات التأويلية - رفع الظني إلى مستوى اليقيني أو تغييب الاحتمالي لصالح الفرضي أو التعلق بحرفية المفردة والانحباس في اللفظية المباشرة دون التّماس المحلّق مع فضاء العبارة.

الدلالة اللزومية هي الغائب الأكبر عن كثير من تلك الأطروحات فهي تمركز جملة من المفردات وتكون مشدودة بشكل أو بآخر إلى نتائج بحثية تتقاطع مع البعد الرغبوي المضمر حيث المرتكزات اللا شعورية يجري الخضوع لها بشكل تلقائي فرواسب البيئة الفكرية تحدو الوعي إلى ضرب من القراءة الاستنطاقية المتكئة على بُعد انتقائي يحجب الوعي عن معاينة (دلالة الالتزام) وهي دلالة عقلية بالضرورة كما يقرر المناطقة، إنها دلالة تكشف كثيرا من الخصوصيات المحيطة بالمعنى وتجلي قدرا من الإيحاءات المنفتحة على آفاق الفكرة؛ الابتسار هنا يقلل من قدرة العقل على استدعاء المعاني الإيحائية والظلال المرتبطة بالمفردات، إنه لا يحفل كثيرا بمحددات تقنيات التقعيد التأويلي التي تواضع عليها ذوو العرف الخاص.

تلك الذهنية التأويلية تأخذ من الحكم الوارد في قضية جزئية - وقد تكون قضية عين أحيانا! -أساسا للحكم الكلي وتنسى أن احتمال الخصوصية يبقى واردا؛ كثيرا ما تخلط - جهلا وأحيانا تجاهُلا - بين سياق وآخر معتقدة أن هذا من قبيل تطبيق الحكم الكلي على جزئياته فتُرحل حكم هذا إلى ذاك وتحاكم أحدهما بمعايير الآخر الذي تأبى طبيعة سياقه التماهي كإفراز حتمي لتخلّف(العلة) التي يتعذر جَعْل القضية قياسية إبان غيابها وهنا يقع العقل في خطيئة الجمع بين اللا متماثلين في مناقضة صارخة لأبسط بديهيات العقل الذي تقرر مقدماته الأولى عدم عقلانية المساواة التامة بين المتبايِنَيْن إنْ تباينا كليا أو جزئيا وذلك عندما يكون ثمة قدر مشترك حيث التماثُل يتموضع في بعض الوجوه، إذاً المساواة التامة هنا هي مما يندرج في خط التكلف الذي يسيء لحسّ العقل المستقل لصالح العقل المستقيل!.

أحيانا يتم ضرب النصوص - التي تتسم بعدم اتحاد الجهة - ببعضها بادعاء أن ثمة تناقضا يحكمها ولا يعي أولئك أن الأمر هنا والنهي هناك لم يردا على صورة واحدة، بل كما يقال بالعبارة التراثية (الجهة منفكة) والنهي في ذلك السياق لا لوصف ملازم للمنهي عنه وإنما لأمر خارج عن ذاته.

تلك المقاربات حينما تتحرك في الخط التأويلي لاتعير كبير اهتمام للقرائن السياقية والمقامية والنصية وإن أعارتها اهتماما ذات مقاربة ما فإنها تخفق في إسقاطها على واقعها المعتبر وفي أحيان كثيرة يبدو للمتلقي أن تلك الأطروحات لا تدرك أنه حتى القرائن حينما تُحشد لصالح تعزيز فرضية ما فإن القيمة الاحتمالية الكلية عن تلك الفرضية التأويلية لا تُستقى من قيم احتمالات تلك القرائن بدرجة متماثلة؛ لأن قيم الاحتمالات تتباين تبعا لتباين القرائن ذاتها وهذا الملمح المنهجي هو ما يرسخ لدينا أن القضية هنا لا تخضع إلى كمية الشواهد بقدر ما هي مرهونة بنوعيتها، المعتبر هنا هو الكيفية لا الكمية إذ قد يتوارى - موضوعيا - جمع من القرائن أمام قرينة مفردة ويتيمة بفعل ما تتوفر عليه من وفرة ملحوظة في الزخم الاستدلالي.

ومحصول القول: إن العقل يقع في فخ متاهات كثيرة حينما يقفز على اشتراطات تعقيله ويتجافى عن تلك القواعد المنهجية المَعْنية برسم معالم التعامل العلمي مع الخطوط العامة والعريضة لقانون التأويل.

Abdalla_2015@hotmail.com بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة