Culture Magazine Thursday  13/09/2012 G Issue 379
فضاءات
الخميس 26 ,شوال 1433   العدد  379
 
تقويمُ التَّقييمِ (1-2)
فيصل بن علي المنصور

 

مِن الألفاظِ الذائعةِ في كلامِ الناسِ اليومَ لفظُ (التقييم)، يريدون بهِ (تحديدَ قيمةِ الشيء). وقد صحَّح هذا اللفظَ بعضُ المحدَثين. وهو قولٌ باطلٌ. فأمَّا السَّماعُ، فقد صفِرت أيديهم منه. وأما القياسُ، فسيقولون: قد أردنا بذلكَ عِلَّةً حكيمةً، وغرضًا مسلوكًا. وذلكَ أنَّا رأيناهم يقولون: (قوَّمَ الشيءَ تقويمًا): إذا أصلحَ عِوجَه، و(قوَّمَ الشيءَ تقويمًا): إذا حدَّدَ قيمتَه، فخشِينا أن يلتبِس هذان المعنَيانِ إذْ كان لفظُهما واحدًا، فعمَدنا إلى لفظِ (القِيمة) بمعنى (الثمَن)، وهو المصدر المجرَّد لهذا المعنَى*2*، وأصلُه (القِوْمة)، وقَعتِ الواو ساكنةً بعد كسرٍ، فقُلِبت ياءً، فاشتقَقنا منه، فقلنا: (قيَّمَ تقييمًا)، وأبقَينا البدَلَ الواقِعَ في المصدرِ حتى نفرُقَ بين المعنَيينِ. والذي نهجَ لنا هذا السبيلَ أنَّا رأيناهم ربَّما أبقَوا حكمَ البدَلِ في الأسماءِ المفرَّعة عن الاسمِ الذي هو واقِعٌ فيهِ معَ زَوال العِلَّة الموجِبةِ له. ولذلكَ اعتدُّوا هذه الفروعَ طارئةً على الاسمِ، وعارِضةً فيه، ولم يجعلوها كالمستقلّة بأنفسِها، ألا تراهم جمعُوا (عيدًا) على (أعياد)، ولم يقولوا: (أعواد)، ثم استمرُّوا، فقالوا: (عيَّد الناسُ): إذا شهِدوا العيدَ، ولم يقولوا: (عَوَّدَ) مع زَوال عِلَّة الإبدال التي في (عِيد). وقالوا: (ديمة) للمطرِ الدائمِ، وأصلُها (دِوْمة) لأنها من دامَ يدُومُ، ثم قالوا: (دوَّمتِ السَّماءُ): إذا دامَ مطرُها. و(ديَّمت) على هذا الوجه. فقد رأيتم أن (التقييم) ينزِعُ إلى قياسٍ صحيحٍ. وما قيس على كلامِ العربِ فهو من كلامِهم.

والجواب عن هذا من وجوهٍ عِدَّةٍ:

الأول: أنَّ (التقويمَ) قد جاءَ في كلامِ العربِ مستعمَلاً بهذا المعنَى وفي الحديثِ: (قالوا: يا رسولَ الله، لو قوَّمتَ لنا، فقال: الله هو المقوِّم)*4* أي: لو حدَّدتَ لنا القِيمةَ. ومن شرطِ صِحَّة القياسِ عدمُ السَّماعِ، إذْ كانَ السَّماعُ هو المهيمِنَ على القياسِ من قِبَلِ أنه حاقُّ كلامِ العربِ المقطوعِ به، والمستوثقِ منه، والقياسُ آلةٌ نظَريةٌ مستنبَطةٌ من استقراءِ مذاهبِهم، وتتبُّعِ عوائدِهم، قائمةٌ على الظنِّ في ما ينبغي أن يجيءَ عليه كلامُهم لو تكلَّموا. وليس يصِحُّ في العقلِ العدولُ عن اليقين إلى الظنِّ، وعن الشاهد إلى الغائبِ، وعن المعلوم إلى المجهولِ. وما يدريك لعلَّ العربَ لو تكلَّمتْ في ذلك، لخالفَت عن قياسِها لعلَّةٍ من العِلَلِ. ولذلك تقولُ في النسبة إلى (السَّهْل): (سُهليّ) بضم السِّين، ولا تفتحُها، وتقولُ في جمعِ (فارس): (فوارس)، ولا تقولُ: (فُرَّس)، ولا (فُرَّاس)، وتقولُ في مصدرِ (طلبَه): (طلَبًا)، ولا تقولُ: (طَلْبًا)، وتقولُ في اسم المكان، والزمان من (نبَتَ ينبُت): (منبِت)، ولا تقولُ: (منبَت). تمتنِع من ذلك كلِّه مع أنه القياسُ.

الثانِي: أنَّ العرب لا تكاد تحفِلُ باللبسِ الناشئ عن الاشتراكِ اللفظيِّ، ولا تفصِل من أجلِه أحدَ اللفظينِ عن الآخَر بضربٍ من ضروبِ التغييرِ، ألا ترى أنَّ (تفعَّل) المضارعَ المحذوفَ التاء للتخفيف قد يلتبِسُ ب(تفعَّل) الماضي، نحو (تلهَّى)، و(تزكَّى)، وأنَّ اسم الفاعل من نحو (اختارَ) قد يلتبس باسم المفعول من الفعل نفسِه، لأنك تقول فيهما جميعًا: (مختار)، وأنَّ الضميرَ (هما) يقعُ على المثنى المؤنَّث كما يقعُ على المثنى المذكّر، وأنَّ الاسمَ المنسوبَ إلى ذي التاء قد يلتبِس أحيانًا بعد إسقاطها بالعاري منها، تقولُ في النسبة إلى (قائم): (قائميّ)، وفي النسبة إلى (قائمة): (قائميّ) أيضًا. وتصغِّر الثلاثيَّ على اختلافِ حركة فائه، وعينِه على (فُعَيْل). وهي بِنيةٌ واحِدةٌ لا يؤمَن معها اللَّبسُ، إذْ لا تدُلّ على حركاتِ الاسم قبلَ تصغيرِه. هذا وألفاظُ المشترَك اللفظيّ، وألفاظُ الأضدادِ كلُّها شواهدُ على ذلك، ألا ترَى أنَّ كلمتي (العين)، و(الخال) لهما معانٍ كثيرةٌ، وأنَّ (الجونَ) يطلق على الأبيض، والأسود، و(الصريمَ) يطلق على الليل، والنهار، وشتَّان ما هما. ومع ذلكَ أبقَوا هذه الألفاظ على مكِناتِها، ولم يحيلوا عليها بشيءٍ من التصرُّف. كأنَّهم آثَروا احتمالَ وحشة اللبس، وظُلمةِ الاستبهام على كُلفةِ الانتقالِ، ومئونةِ التغييرِ، حينَ رأوا في القرائنِ التي تكنُف الكلِمةَ ما يُذهِب عنهم هذه الوحشةَ، ويكشِف لهم تلك الظلمةَ. وهم في ما قلَّ استِعمالُه، وضؤُل خطرُه أكثرُ احتمالاً لما شاعَ، وانتشَرَ، وكثُر تعاورُه. ولذلكَ لم يسيغُوا التباسَ مضارع الثلاثيِّ المعتلّ العين بالواو بالثلاثيِّ المعتلِّ العينِ بالياء، فأوجبُوا الفَصْلَ بينهما محميَةً من وقوعِ اللبسِ، فجعلُوا المعتلَّ بالواو على (يفعُل) ك(يقول)، والمعتلَّ بالياء على (يفعِل) ك(يبيع)، لكثرةِ ذلك، وعِظَم خطَرِه، إذْ لولا هذا التمييزُ، لتداخلَت أصولُ الكلِم، وعسُر التفريقُ بينها. كما أنهم في ما اشتدَّ إغماضُه، وخُشِيت جَهالةُ مدلولِه أقلّ احتمالاً منهم لما أعرضَت صَفحتُه، وأسفَرَ وجهُه، وسهُلَ الاهتداءُ إلى غرضِه. ولذلكَ أبَوا حذفَ الياءِ من (فَعيلة) المعتلِّ العينِ عند النسبةِ إليه كما حذفُوها من الصحيح، نحو (حَنَفيّ)، فقالوا في النسبة إلى (طَويلة): (طَوِيليّ). وذلكَ أنهم لو حذفُوها، فقالوا: (طَوَليّ)، لألزمَهم هذا أن يبدِلوا الواو ألفًا لتحرّكها، وانفتاحِ ما قبلها، فيقولوا: (طاليّ). وهذا غايةٌ في الإلباسِ، لما يتعاقبُ على الكلِمة من التغييرِ المعفِّي على الأصلِ. ولم يُكرثهم في سبيلِ ذلك أن يخرجوا عن القياسِ المستمرِّ، ولا أن يختصُّوا هذا الضربَ بما يفارقُ به نظائرَه، وأترابَه. علَى أنَّهم في ذلك كلِّه لم يستحدِثوا حكمًا أنُفًا، ولم يرتجلوا قياسًا جديدًا، فأمَّا في مضارعِ الثلاثيّ المعتلّ العينِ، فقد كانت تفرِقتهم بين الواوي، واليائيّ إبَّان الوضعِ، وليس بعدَه. وأمّا في (فَعيلة) المعتلّ العينِ، فإنهم إنما راجعُوا أصلاً مهجورًا، وهو النسبة إلى الاسمِ كما هو من غيرِ حذفٍ.

وقد رأيتَ في هذا البابِ سعةَ احتيالِهم، ووفورَ حكمتِهم، إذْ لم يجعلُوه شَرْعًا واحدًا، وجِنسًا متشاكِلاً، ولم يردُّوه إلى حكمٍ ثابتٍ لا يتبدَّلُ، فيعتدُّوا بكلِّ لَبسٍ، أو يهمِلوهُ، بل عامَلوا كلَّ فَردٍ منها على حِدةٍ، ونظَروا إليه نظَرَ الوالدِ الشفيقِ في مصلحةِ ولَدِه، فمايَزوا بين عِلَلِه المتجاذبةِ، وأصولِه المتدافِعةِ، ثمَّ قضَوا له بأشبهِها بالحكمةِ، وأردِّها عائدةً على المتكلِّم. وهذا بابٌ واسِع المضطرَبِ. وقد تناوَلنا منه ما يعيننا على فَهم هذه المسألة، وتعرُّفِ الصوابِ فيها.

وكلمةُ (التقويمِ) في دلالتِها على معنيينِ هي من جِنس المشترَك اللفظيِّ. وقد رأينا العربَ احتمَلت هذا، وأشباهَه. ورأيناهم أيضًا في ما اعتدُّوا به من اللَّبس لم يزيدُوا على أن فطِنوا إليه قبلَ الوضعِ كما في نحو (يقول)، و(يبيع)، أو عرَض لهم بعدَ الوضعِ، فتركُوه على أصلِه الأوّلِ، ولم يُجروا عليه القياسَ الذي أجرَوه على نظائرِه كما في (طَويليّ). وذلكَ أيسَرُ، وأقلُّ كُلفةً من نقلِ الشيءِ عن قياسِه، وإفرادِه بحُكم جديدٍ. فكيفَ يَجوز بعد هذا أن يزعم زاعِمٌ صِحّة إبدالِ واو (التقويم) ياءً مع أن الإبدالَ تصرّف مخرِج عن الأصلِ؟ وعلَى أنَّ اللبسَ في استعمال (التقويم) في كلا المعنيينِ من ما لا يكادُ يقَعُ، لأنَّه ليس بين المعنيينِ شيءٌ من التقاربِ تعيَا القرائنُ عن كشفِه، من قِبَلِ أنَّ سياقَ الكلامِ كفيلٌ بتعيينِ المعنى المُرادِ، فإذا قلتَ مثَلاً: (قوَّمت السِّلعةَ، أو الدرجاتِ)، عُلِم أن المعنى (قدَّرتُ قيمتَها). وإذا قلتَ: (قوَّمت العصا)، عُلِم أنّ المرادَ إصلاحُها، وتعديلُها. وهذا على خلافِ (الجَون) مثَلاً، فإنَّ سياقَ الكلامِ قلَّما دلَّ على تعيينِ أحد المعنيينِ، فإذا سمعتَ قائلاً يقول: (رأيتُ رجلاً جونًا)، لم تدرِ أأرادَ أبيضَ، أم أسودَ. وقد قبِلوه مع ذلك، ولم يتصرَّفوا فيه بشيءٍ.

* منهم مجمعُ اللغة بالقاهرة، راجع مجلةَ المجمع 24- 200، والمعجمَ الوسيط (قيم)، ومحمدٌ العدناني في معجم الأخطاء الشائعة 212، وإميل يعقوب في معجم الخطأ والصواب 224. وقد لخَّصت حجتَهم بأوفى، وأبينَ من ما ذكروا.

* توهم صاحب معجم الخطأ والصواب 224 أنه اسم غير مصدر. ولا يصِحّ، فإنه مصدرٌ ل(قامَ الشيء) بمعنى (بلغَ ثمنُه)، يقال: كم قامت ناقتُك؟ أي: كم بلغَ ثمنُها. انظر تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري (قوم) رواية عن أبي زيدٍ في (نوادره). وليس في المطبوع منها. وهو أيضًا في البارع في اللغة لأبي علي القالي 514، وغيرِه.

* راجع العين (قوم)، وغريب الحديث لأبي عبيد 5- 247، والبارع لأبي علي 517، وتهذيب اللغة للأزهري (قوم)، وغيرَها.

* النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4- 125.

faysalmansour@gmail.com جامعة أم القرى

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة