Culture Magazine Thursday  13/09/2012 G Issue 379
فضاءات
الخميس 26 ,شوال 1433   العدد  379
 
السخرية.. كسلوك ثوري
عبدالله العودة

 

في إحدى مقالاته عن الأدب الثوري.. تحدث الكاتب الأمريكي البريطاني كريستوفر هيتشنز عن الكتابة الساخرة، وعن «السخرية» كفعل أدبي ثوري.. مستشهداً بالعديد من الكتابات الأدبية اليسارية وغيرها.. وانتهى إلى أن السخرية هي ثورة بمعنى ما. السخرية تعني التمرد على الواقع والقرف منه لدرجة السخرية والضحك عليه، وصناعة النكتة الموجعة التي تنتقد الواقع وتمارس الفضح الفني على المشاكل الاجتماعية والسياسية والدينية.. فهي تمثل نوعاً من الوعي بهذا المجتمع والحالة وبمشاكله وعقده للمستوى الذي يؤهل للكتابة الساخرة عنه وتسليط الضوء بشكل فكاهي على نقاط ضعفه ومجالات إخفاقه. في الثورات العالمية.. كان العمل الساخر والنكتة ممارسة ثورية بامتياز.. قد يكون حيناً شكلاً رمزياً كمثل القصص الرمزية الساخرة في عهد اليونان، أو مسرحاً كما حصل في عهد الرومان واليونان أيضاً، أو ممارسة اجتماعية أو ملحمة أو مدونة هزلية كما يصنع الجاحظ أو رواية ساخرة كما صنع فولتير أوغير ذلك.. المهم أن هذه السخرية تتمرد على الواقع وتعيد رسمه بشكل كاريكاتوري كي يبعث على الضحك ويفكك عناصره الداخلية ليحيله إلى نكتة. فليس غريباً إذاً، أن يكون الشعب المصري الساخر بنكتته وسخريته يمارس ثورته وسخريته في ميدان التحرير في آن. لقد أصبح قبيل الثورة وحتى بعدها ميدان التحرير ليس مجالاً للعلاقات وتبادل المعارف والأهازيج والصيحات والنداءات والشعارات فحسب.. بل ومسرحاً كبيراً لصناعة السخرية المرة من الواقع السياسي ومن شخوص هذا الواقع فقصص مختلفة ولوحات فكاهية وروايات وشعارات.. كلها تمثل أشكالا للإبداع الثوري الساخر الذي يمارس احتجاجه بطريقته الخاصة عبر العبث بهذا الواقع السياسي ونقد رموزه وفي ذات الوقت رسم البسمة على شفاه العابرين والقارئين.. وإيصال الرسالة لعدد كبير جداً تتراوح أهدافهم بين التعاطف مع القضية وبين الإعجاب بالإبداع الفني أو حتى التلذذ بالضحك على هذه السخرية المرة.. مثل هذه القصة التي اخترعها خيال متظاهر في التحرير أن رئيس مجلس الوزراء قبل الثورة المصرية هذه التقى الرئيس المخلوع حسني مبارك وكان بينهما هذا الحوار:

«مبارك: أخبرني بصراحة يا نظيف ولا داعي للنفاق والمجاملات السياسية.. نظيف: أمرك ياريّس.. مبارك: أنا الأفضل وإلا عبدالناصر؟ نظيف: إنتا طبعاً ياريّس.. جمال مين اللي كان بيخاف من الروس.. مبارك: طيب أنا الأفضل وإلا السادات؟ نظيف: إنتا طبعاً ياريّس.. سادات مين اللي كان بيخاف من الأمريكان.. مبارك: طيب.. أنا الأفضل وإلا الفاروق عمر بن الخطاب؟ نظيف: إنتا ياريّس.. أصل عمر بن الخطاب بيخاف من ربنا.. وأنتا لأ!»

وهذه الرواية.. مثلها يتم إنتاجه بشكل شبه يومي من أفواه الساخرين والثائرين والساخطين على الواقع.. فأي سائق أجرة أو نادل أو موظف استقبال في مصر وأي مكان ثائر آخر يستطيع إلقاء عشرات الأحاديث والنكات الساخرة السياسية والاجتماعية.. وكل ذلك دليل وعي مبدئي بوجود مشكلة وبالحاجة لحل.. واللجوء للسخرية المرة كطريقة معروفة فنياً ونفسياً لتوضيح سخط الحاكي بهذا الواقع المعين والرغبة بواقع أفضل، وأصلح.. ومع إتاحة وسائل التواصل السريعة وأدوات التراسل المباشرة والهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي.. أصبحت النكتة الساخرة بل والشخصيات الساخرة (parody) ظاهرة مألوفة جداً يتم فيها قول كل الأشياء السياسية الصاخبة وكل الآراء والنقد لشتى جوانب الحياة والسياسية بطريقة تبعث على الضحك والاسترخاء.. وأغلب النكت الجميلة والموثرة هي بشكل غير مقصود إنتاج أكثر من شخص بل ربما اجتمع عليها العشرات دون أن يشعروا حيث كل من مر عليها يطورها بشكل عام ويضيف عليها لمسته الخاصة فينقلها أو يحكيها وهكذا تتطور النكتة أو الحكاية الساخرة أو التعليق ليصبح صناعة مجموعة كبيرة من الناس ويتحول لنقطة وعي مركزية في ذهن المجتمع.. وهذا أجمل ما في السخرية اللاذعة التي تنقل الوعي وتستفز الذهن للعمل في الوقت الذي تبعث فيها على الضحك والاستمتاع.

في تويتر مثلاً.. هناك كل الشخصيات المؤثرة يتم محاكاتها وصناعة السخرية فيها بدءاً بالرؤساء الغربيين والنجوم العالميين وأكثر السياسيين المؤثرين.. حيث يمارس الحساب الساخر نقداً بطريقة ما للشخصية ويبعث على الضحك فهو يجمع بين الفن والوعي. وفي اليوتيوب.. عشرات المقدمين والشخصيات المبدعة والقنوات اليوتيوبية التي تمارس النقد بل وقد تشارك في مهمات شعبية عظيمة كمحاولة ممارسة الرقابة على المؤسسات الحكومية والوزارات والإعلام التقليدي عبر الضحك والسخرية.. ولذلك تلقى هذه المقاطع والمشاهد رواجاً لدى أكثر الشرائح كونها تمثل عملاً فنياً إبداعياً من جهة.. وتمارس مهمة توعوية من جهة أخرى في نقد الواقع والرقابة على المؤسسات الرسمية والوزارات ودعم الإصلاح والقضايا الشعبية.. مثل قناة «صاحي» و»على الطاير» و»لا يكثر» و»إيش اللي» و»مسامير» و»ملعوب علينا» و»التاسعة إلا ربع» وأعمال بدر الحمود.. وغيرها كثير..

في النهاية.. كل هذه الأعمال والنكت الشعبية والحسابات الساخرة والقنوات اليوتيوبية الناقدة والضاحكة.. تعبر عن مستوى من الوعي الشعبي وتساعد عليه، وتمارس مهاماً جليلة اجتماعياً وشعبياً.. بل وتشارك في مهمة الرقابة على المؤسسات الرسمية التي هي مهمة مؤسسات المجتمع المدني والإعلام المستقل في البلاد الغربية.. وفوق كل هذا وذاك: هي تبعث على الأنس والاسترخاء.. وتعيد الثقة بقدرات الناس ودورهم.. ومستوى الوعي والإبداع الفني الذي يحملونه.. وتثير فيك الشعور بالفخر لأنه إنتاج فني مستقل يعبر عن الجهد الشخصي ابتداءً الذي شق طريقه بأسلوب ساخر في الحياة الفنية والوجود والتأثير والتعبير عن صوت المجتمع.. ولذلك فالسخرية ليست فقطً عملاً فنياً.. بل أيضاً من أشرف طرق بث الوعي والتأثير.

abdalodah@gmail.com أميركا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة