Culture Magazine Thursday  13/09/2012 G Issue 379
فضاءات
الخميس 26 ,شوال 1433   العدد  379
 
غباء الببغاء
وائل القاسم

 

إنك إذا كنت مؤهلاً عقلياً، ومعتمداً على عقلك المؤهل وحده ورافضاً كل ما لا يقبله من الأشياء، مهما بلغ تقديس المحيطين بك لها أو إعجابهم بها أو إصرارهم عليها، وقادراً على تنحية عواطفك وموروثاتك عند التفكير في قضية ما، فإنك حينئذ ستصل إلى ما أريدك أن تصل إليه من خلال كتابتي لهذه المقالة.

أريدك أن تصل إلى تلك المرحلة العظيمة من مراحل حرية العقل، التي تجعلك صلب القناعات الحرة، التي وصلت إليها بالتفكير الحر العميق المستقل المتجرد من جميع العوامل العاطفية والمجتمعية التي تمنع غالب الناس من تحقيق هذا المطلب الرفيع العزيز.

أريدك أن تتخلص من جميع رواسب التلقين.. أريدك أن تغسل عقلك بماء الحرية حتى ينظف من كل سموم وأدران الحشو والتعويد المتراكمة، التي تكرَّست فيه منذ طفولتك دون أن تفكر في صحتها يوماً بحياد وصدق! أريدك أن تصل إلى القدرة الكاملة على اختيار قناعاتك بتجرُّدٍ صادق وبُعْدٍ كامل عن جميع المؤثرات التي يمنع تشويشها العقول من النظر إلى الأشياء بوضوح وصفاء.

احذر أن تكون كالببغاء الذي يردد ما يمليه عليه غيره دون تفكير فيه، أو محاولة لتأمله وفهمه والتأكد من صحته!.

هل سمعتم ببغاء يفكر في معاني الكلمات التي يكررها بعد سماعها من الناس؟ إن المؤدلج المسكين المفلس كالببغاء تماماً، يردِّد بكل غباء ما يسمعه من الملقنين..

إنه أشد غباء من الببغاء؛ لأنه لا يكتفي بترديد ما لم يعمل عقله فيه، بل يتجاوز تلك المرحلة إلى مرحلة أكثر غباء وحماقة وعبودية، فتجده يدافع عن ملقنيه، ويهاجم من يختلف معهم في الرأي، أو من ينتقد ويفنّد بالحجج والبراهين وجهات نظر أساتذته ومحفظيه!.

احذر أيضاً (الاقتناع دون اقتناع)، احذر أن تخادع نفسك أو أن تمكر بها..

لا تظهر قناعتك بأي فكرة تحت أيِّ ضغط.

إن إظهار الإنسان اقتناعه بشيء ما، بسبب خوفه من وهم ما، أو طمعه في سراب ما، أو هربه من شبح خرافة ما، أو سعيه إلى خيال ما.. إن ذلك ليس اقتناعاً حقيقياً.. إنه ليس إلا مخادعة رخيصة للنفس وهروباً ذليلاً من رؤية الأشياء كما هي إلى عالم الأوهام والخزعبلات.

إن القناعات كالطوب الذي يُبنى به الجدار، فكل قناعة منها طوبة، والجدار هو الكيان الفكري للإنسان.. فإذا بنى الإنسان كيانه الفكري بقناعات هشة ضعيفة، تبنّاها وارتضاها لنفسه نتيجة لضغوط أو مطامع معينة، دون اقتناع حقيقي كامل جاد بها، فإن كيانه الفكري سينهار عند أول امتحان حقيقي، كمواجهة من يحمل قناعات صلبة مضادة.

أجل، سينهار جسد أفكاره كما ينهار الجدار الذي بُني بأحجار ضعيفة غير متماسكة.

ليس هناك أكثر ثقة في خطواته من إنسان بنى قناعاته فوق قمم جبال الحرية في أجواء فكرية عليلة نقية، بعيدة عن غبار الوصاية وشوائب الولاية وأجواء الخرافات والكوابيس الملوثة، وعوالق أتربة التلقين والإكراه وفرض الرأي.. إن هذا الإنسان سيمشي في ساحة الثقافة والفكر ملكاً واثق الخطوات دون أدنى ريب، بل بكل يقين.

العقول يا أعزائي كالصناديق، والأفكار هي ما يوضع فيها إما ذهباً أو حجارة..

وقد يكون الصندوق الذي يملؤه صاحبه بالحجارة أثقل من الصندوق المملوء بالذهب والفضة، ولكنه لا يساوي شيئاً.. إن قيمته صفر، مهما تعب صاحبه في جمع ووضع تلك الحجارة الثقيلة فيه! ما أجمل أن تكون قناعاتك ثمينة كالذهب.. ابذل كل ما بوسعك لتحقيق ذلك المطلب النفيس.. لا تضع في صندوق عقلك أيّ فكرة لا تقنعك إقناعاً تاماً، مهما بلغ تقديس المحيطين بك لها، أو فرحهم بها، أو حرصهم عليها، إذا أردت أن تكون مميزاً مختلفاً شامخ الذات والحِجا. ولن يكون ذلك سهلاً.. إياك أن تعتقد أن ذلك الأمر سهل المنال.. إنه أمر شاق ومتعب، لا تستطيعه إلا النفوس الكبار التي تتعب في مرادها الأجسام.. نعم، يجب أن يتعب جسمك.. يجب أن تتعب عيناك في البحث والقراءة والمشاهدة والاطلاع والتمحيص والمقارنة.. يجب أن تتعب قدماك في السير بك إلى كل مكان تجد فيه معلومة معينة تحتاجها في بحثك عن موضوع معين.. يجب أن يتعب قلبك من زيادة تفكير عقلك.. يجب أن يتعب فيك كل عضو، وأن تتحمل الصعوبات الكثيرة والعقبات الكأداء التي ستعترض طريقك -حتماً- قبل أن تصل إلى برِّ أمان العقل وقناعاته الثقيلة الراسخة وحريته العظيمة المقدسة.

لن تصل إلى ذلك المطلب السامي بسهولة، بل لابد دون عسل تلك المنزلة الجليلة من إبر نحلها الذي سيهاجمك بين الفينة والأخرى وأنت تسير في طريق الخلاص والعتق والانتصار.. لابد أن تمارس التفكير الحر المستقل كثيراً.. لابد أن تتعود عليه بالمثابرة والإصرار حتى تتمرس فتنجح. لابد أن تكون طويل النفس.. لابد أن تتدرج في ذلك بهدوء.. لابد أن تصعد السلم بتوازن حتى لا تسقط. ولكنك حين تصل، ستنسى كل ما مر بك من متاعب وعقبات. ثق أنك ستشعر بنشوة فريدة كبرى تستحق التضحية والكفاح والعمل الدؤوب.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة