Culture Magazine Thursday  13/12/2012 G Issue 389
فضاءات
الخميس 29 ,محرم 1434   العدد  389
 
درس في جماليات الموت
سقراط يقترب أكثر
محمد عبدالله الهويمل

 

الله عادل إذن الموت عدل. لا يكاد يخلو إنسان ملحد من إيمان طارئ بوجود الله بسبب الإجابة الطارئة عن سؤال غير طارئ، بل إن بعض المفكرين يعد إنكار وجود الله كذباً وخداعاً بداعي الكسل الذهني، أو رفض الانقياد لـ(القطيع) المؤمن، لكنه في خلوته يمارس إيمان الدراويش، بل يستمتع به لأنه يضعه في حجمه الطبيعي كما سأنوه لاحقاً. مسألة العدل تبقى حالة قلق وتردد لتردد دواعيها، فالله من جهة عادل؛ لأنه رزقنا العالم الجميل الزاخر بالمتع واللذائذ، وحيناً يصفونه - تعالى الله - بالظالم؛ لأنه أذن للأوبئة والكوارث بالحدوث والفتك بالأبرياء، لذا أبقوا العدالة مرتبكة داخل صفات الرب - عز وجل - غير محسومة ضمن منظومة الصفات الإلهية كالخلق والقوة، تغذي وتتغذى من صفة الرحمة والكرم واللطف والود، وجملة أخرى من الصفات التي تؤطر صفة العدالة والإخلال بها إخلال بالبقية التي تشكل عدداً من صفات الله، وإنكار أحداها إنكار لها كلها ما يوتر العلاقة بالخالق أو بوجوده؛ ما قد يستدعي كراهيته أو رفض وجوده من الأصل. وكل من ألحد بعد الإيمان وأظهر أو أضمر الأسباب لا بد أن يكون تصنيفه لعدل الله فاتحة اعتراض على استحقاقه للألوهية - تعالى الله -، ولاسيما بعد أن يطبق العدل البشري بتفاصيلة الأخلاقية المشوهة المخلوقة على الخالق بشرائط الشفافية والذوق المتماسة مع قواعد الجمال الإلحادي؛ إذ العدل جمال وفقدانه من (مكتشفات) الجمال, والشيطان يسكن في الذوق، بل ربما يؤسسه من عدم، فرفض سجود الشيطان لآدم جاء محمولاً على حجة ذوقية موهمة، غير مستندة إلى فرض علمي يؤول إلى أفضلية عنصر كيميائي على آخر، لكن حين يتحول الذوق إلى انفعال فإنه يتجه إلى تشكل حزبي يأخذ مداه في الوعي السلالي البشري ملهماً الإنسان حججاً تفعل فعلها في المعقولات، وتضخ مواقفها الطارئة؛ لتكون مفاهيم مركزية طبيعية ومهمة في توجيه الرأي سلباً وإيجاباً، وهكذا الذوق المتصل بالشفافية الغافلة عن مظالم إلى مظالم أخرى (بحسبهم)، فأحدهم يأسف أبلغ الأسف لمشهد انقضاض الأسد على الغزال الناعم البريء محتجاً على قوانين الله التي وضعها في النظام الغذائي للأسد، متجاهلاً أن هذا الغزال الناعم يعتدي هو الآخر على نبات أكثر جمالاً ونعومة منه ليعيش، وأن هذا النبات الناعم أجرم بطعنه التراب الأكثر نعومة منه من أجل أن يعيش, وهكذا تتابع سلسلة الأسئلة والتجاهلات الفجة فقط؛ لأننا نفتح مساحاتنا الشعوريونغلقها بلا وعي من ذوق لا يضبط نفسه؛ فكيف به وهو يضبطنا.

وكل السلسلة السالفة تنتهي إلى موت أو أذى من ناعم إلى أنعم؛ ما يشي بأن الموت ذاته قد يلج مشهد النعومة دون أن يمسنا نحن البشر المباشرين لهذه الظواهر بأية دهشة؛ إذ إننا تعودنا على الحضور الشرير للموت وأدواره العدائية تجاه الكائنات بحسب ذاكرتنا الشعورية التي تؤسس إلى معادلة ناعمة = زهرة ناعمة يلوكها فم الغزال الناعم، وهذه المعادلة غائبة عن مفتعلي ومفلسفي شرح قوانين العدل دون أن يشيروا إلى فَهم كهذا؛ لأن الناعم الخيِّر عندهم لا يؤدي دور الشرير لخلل سيصيب معايير الخير والشر، ومدى صلتها بالغيبيات في منظوماتهم الأخلاقية متغافلين عن أن اعتداء الغزال على الوردة هو اعتداء رقمي جمالي؛ لكي يعيش الأكبر جمالاً والأوسع نعومة في مساحته، فانتهت السلسلة إلى أن التهام الأسد الغزال ينطوي على السر الجمالي الرقمي الناعم ذاته, وأن الأسد المفترس يمثل طرفاً ناعماً وحالة من الموت الخيِّر، وإذا كان هذا اللون من الموت خيِّراً فكل افتراس من الأسد أو الزلازل أو الكوارث خيِّر؛ لأنه يمثل سلسلة من الاعتدادات الناعمة تنتهي إلى القدر الأكبر، وهو أكثرها خيرية، وهو الموت والقيامة, ولا دليل ناصعاً يبرهن على أن الأسد والكوارث أطراف غير ناعمة وفق هذه السلسلة؛ لأن الشر وفق فهمنا يصدر عن الناعم ثقافياً وهو الغزال، وهذا يمتد إلى مفهوم الموت, والأمثلة جزيلة على هذا المعطى، وتتعاظم هذه النعومة ساعة نقترب من الحقيقة كما يؤكد سقراط بأن «الموت يزداد جمالاً باقترابنا من الحقيقة»؛ ما يدفعنا إلى أن نحدد مدى نعومة الحقيقة، وهل هي لذيذة بارتباطها بالدهشة، أم لأنها الشيء الطبيعي حيث كل طبيعي جميل؛ فالإيمان بعد الكفر يدمجنا في الجمال والنعومة واللذة؛ إذ كل غامض يتجلى كإضافة جليلة إلى معلومات الإنسان أو نبذ معلومات كانت عبئاً على الذاكرة والشعور، وإطراحها أرضاً يخفِّف من الثقل على الكاهل المتداعي.

بلوغ الحقيقة رقمياً هو إضافة وحذف لكمّ من التصورات وتجديد لزوايا الذاكرة وإنعاش للإدراك, وكل ما سبق لا يتجاوز فاصل التغيير أو التنظيف الذي يمنح فرصة جديدة لجمال جديد لا يتخطى عناصر الطبيعة التي لا نتعرف على محدداتها إلا بعلاقة الحق الصواب والمطلق حتى لو مورست ضدنا خديعة جمالية كالمحسنات أو المزيفات المؤقتة؛ فهي حقيقية في ذاتها وطبيعية مؤقتاً، وكونها مؤقتة لا ينفي قدرتها على التأثير الجمالي، وإحداث اللذة والنعومة في ذاتها وفي المؤثر ذاته.

المحصلة أن الحقيقة لا يطرأ عليها تبدل لعدم حاجتها إليه أو لعدم قدرتها على إحداثه لثباتها على التعبير المطلق عن الأشياء؛ لذا سُمِّيت حقيقة؛ حيث محاولة إحداث تغييرأو إصلاح لمادتها هو صرفها عن ثباتها الذي من خلاله نعرف المتغيرات، ويحدث الخلل في تحديد وتعريف وتضيف الأشياء ما يتصادم بعنف مع مصالح الإنسان؛ لذا بقيت الحقيقة ذات جمالية عليا لتحقيقها خدمة أخلاقية عليا، تتمثل في نعومة الثبات الذي يهدف إلى تحقيق فروقات وتميزات تنتهي إلى تراتبية الموجودات حسب انتفاع الإنسان بها من خلال ثنائية الثبات والمتحول، وكلاهما ينطوي عن جمالية عالية يكتسبها من خلال تكامليته بالآخر؛ ما يؤكد الفكرة الأولى بأن الإنسان محاط بالجماليات ثابتة ومتحولة، ومحيط الإنسان إما ثابت أو متحول، والتحول حقيقة هو الآخر.

فالحقيقة تحيط بالإنسان بكل جمالياتها حتى لو استدرجنا إلى خدعة الكذب بشأن الحقيقة، حيث الكذب هو حقيقة أو صدق فني يعيد ترتيب الموجودات على نحو عشوائي لكنه ممكن، ونتائجه ممكنة، وكل ممكن باعث على الطمأنينة أي جمالي على نحو ما. وما يشير إليه سقراط بأن الموت جميل لأننا نقترب من الحقيقة يعني ما نفتقده حقيقة؛ لأنها غير محسومة عن المفكرين والفلاسفة، والدليل قوله (كلما اقتربنا)، أي أننا نتماس مع الحقيقة؛ لأن بلوغها شأن عصي أو متعذر، والجهد في الاقتراب منها بحث عن منتهى الإجابة، والموت نهاية للإجابة عن كل الأسئلة؛ لذلك الجنة لا أسئلة فيها ولا بحث علمياً ولا كتب؛ لأنها مساحة الإجابة العميقة والجاهزة؛ فالانصراف إلى الممتع فيها لعدم وجود مساحة لقلق الأسئلة، وكأن اللذائذ التي يمارسها المؤمنون هي لذائذ الإجابة التي لا تعقبها أسئلة (الحقيقة), وهذا برهان جديد على أن الموت حالة جمالية تكون جزءاً من الإجابة عن سؤال وجودي يمتد بالمنشأ الأول للحياة والإنسان، وتمده إلى الموت وما بعده، والجمالية تنتظم هذه العقد الثلاث، والعبور يكون بامتدادها جميعاً، ومن لم يجد حلاً للغز الموت لن يجد حلاً لما قبله وما بعده، وابتعادك عن الجهد للحل يجعلك (لا أرادياً) رافضاً لأي لون من النتائج (الحقيقة)؛ وعليه، وبحسب سقراط، فإنك ستبتعد أكثر عن جماليات الحقيقة والموت ولذة التفاهم الثنائي مع الموت، والتطبيع العلمي والعاطفي معه ظاهرة وحدث؛ ما يستدعي بكل واقعية وعلمية العبارة التاريخية لأحد المتكلمين المنهكين في البحث في لغز الحياة، والموت ساعة قال (ليتني أموت كعجائز نيسابور), (ليتني في إيمان عجائز نيسابور)، وكلمة (ليت) تعبير عن فقد لذة في متناول اليد.

Hm32@hotmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة