Culture Magazine Thursday  13/12/2012 G Issue 389
ترجمات
الخميس 29 ,محرم 1434   العدد  389
 
قرار (رو ضد ويد) 2-2
أو قصة أهم حكم في تاريخ المحكمة العليا الأمريكية
د. حمد العيسى

 

نزاهة وحياد القضاء

ولكن، أوصى القاضي (الليبرالي) بلاكمون أيضاً بأن (تعيد) المحكمة النظر في القضية وتستمع إليها مجدداً، مع وجود جميع القضاة التسعة من بداية تداول القضية، نظراً لأنّ القاضيين (المحافظين) الجديدين انضما للمحكمة بعد بداية الاستماع للقضية بشهر. وبالفعل وبدلاً من إصدار رأي بلاكمون الأصلي، قررت المحكمة بنفسها (إعادة النظر) في القضية خلال الدورة التالية مع القاضيين المحافظين الجديدين (لويس باول الابن، وويليام رينكويست) لتؤكد على نزاهة وحياد المحكمة العليا وسلامة قرارها من الغمز واللمز من أي طرف أو تيار. واستمعت المحكمة لمرافعات القضية مجدداً في 11 تشرين الأول - أكتوبر 1972 بحضور القضاة التسعة. وبعد إعادة الاستماع، قررت المحكمة بالأغلبية مرة أخرى أنّ قانون ولاية تكساس بمنع الإجهاض غير دستوري. ومرة أخرى كتب بلاكمون رأي الأغلبية الذي نص على أنّ مثل هذه القوانين (تنتهك بند قواعد الإجراءات القانونية (Due Process) العادلة التي تحمي المواطن ضد أي عمل للدولة ينتهك حق المواطن في الخصوصية، بما في ذلك الحق المقيّد للمرأة لإنهاء الحمل). وكتب القاضي الجديد المحافظ سياسياً واجتماعياً رينكويست، الرأي المعارض للأغلبية.

حيثيات الحكم:

حكم مقيّد بشروط وغير مطلق

وهكذا كان حكم المحكمة يقضي بأنّ الحق في إنهاء الحمل هو جزء من حق المرأة في (الخصوصية). ومع ذلك وفي الوقت نفسه، أعلنت المحكمة (أنّ هذا الحق ليس غير مقيّد، بل يجب أن يراعى في تطبيقه المصالح العليا للولاية في التشريع). وجادلت المحكمة أنّ: (الولاية لها مصالح مشروعة في حماية كل من صحة المرأة الحامل وحماية إمكانية وجود وشيك لحياة إنسان)، وهي مصالح تتغيّر أهميتها كلما تقدم الحمل. وقالت المحكمة: في الأشهر الثلاثة الأولى (12 أسبوعاً)، الولاية ليست لها مصلحة في تنظيم حق المرأة في الحصول على الإجهاض. وكأساس لهذا القرار، أشارت المحكمة إلى الأدلة التي تبيّن أنّ الإجهاض لا يشكّل خطراً على صحة الأم خلال الأسابيع الـ 12 الأولى من الحمل. ووفقاً لهذه الأدلة، فإنّ النساء أقل احتمالاً للوفاة من مضاعفات عملية الإجهاض التي تجرى في الأشهر الثلاثة الأولى من احتمال الوفاة بسبب مواصلة الحمل حتى نهايته. ووجدت المحكمة أيضاً أنّ الولاية يمكنها أن تطلب أن يتم تنفيذ عمليات الإجهاض كافة، من قِبل أطباء مرخّص لهم في ظل ظروف آمنة طبياً فحسب.

كما رأت المحكمة، أنّ مصلحة الولاية في تنظيم الإجهاض وحماية صحة المرأة الحامل تبرز في الثلث الثاني من الحمل. وأعلنت المحكمة (في سبيل تعزيز اهتمام الولاية بصحة الأم، يجوز للولاية تنظيم إجراء الإجهاض بطرق تحافظ بشكل معقول على صحة الأم)؛ فقد يكون من ذلك، على سبيل المثال، فرض شروط في ما يتعلق بالمؤهلات وإصدار التراخيص لإجراء عمليات الإجهاض، وكذلك أن تنظم أمكنة إجراء عمليات الإجهاض. وبعد هذه القواعد، يحق للمرأة، بالتشاور مع طبيبها، اتخاذ قرارها بإجراء عملية الإجهاض أم لا؟

وفي الثلث الثالث، فإنّ مصلحة الدولة في (إمكان تحقق الحياة البشرية)، أي حياة الجنين قبل الولادة تجعل من الممكن تنظيم وحتى حظر الإجهاض، إلا عند الضرورة لإنقاذ حياة أو صحة الأم. وبحلول هذه الفترة، يصبح الجنين بحق قابلاً وقادراً على البقاء، أي قادراً على أن يعيش خارج الرحم وبالتالي يحق له حماية الدولة.

ولم تقبل المحكمة الحجج التي تعتبر الجنين شخصاً بالمعنى الوارد في فقرة الإجراءات القانونية في التعديل الـ 14 للدستور، التي تنص أنه لا يجوز لأي ولاية (حرمان أي شخص من الحياة أو الحرية أو الممتلكات من دون اتباع قواعد الإجراءات القانونية الواجبة). وقالت المحكمة (لا يوجد دليل طبي أو علمي على أنّ الحياة تصبح متحققة مع بدء الحمل).

وأضافت المحكمة بأنه (ليس هناك داعٍ لحل الإشكالية الصعبة عن توقيت بدء حياة الجنين بالضبط، وبخاصة عندما لا يوجد أي إجماع أو توافق في الرأي بين العلماء والأطباء والفلاسفة والمفكرين ورجال الدين حول هذا الأمر. ولذلك فإنّ المحكمة في هذه النقطة الخاصة بتطور معرفة الإنسان لا تود تخمين الإجابة).

من المنتصر؟

وكما تشير (موسوعة القانون الأمريكي)، فقد اعتبرت كل من الحركة النسوية وحركة حقوق المرأة قرار (رو ضد ويد) كحجة ودليل مؤيد لما يسمّى بـ (حقوق المرأة الإنجابية) وخطوة إلى الأمام نحو المزيد من المساواة بين الجنسين. هذه المساواة – كما تجادل هاتان الحركتان – لا يمكن أن تتحقق إلاّ عندما يكون للمرأة القدرة على التحكم في الإنجاب. وجادل آخرون بأنهم يعتقدون أن المحكمة العليا قد تجاوزت حدودها كثيراً عبر إصدار سياسات اجتماعية جديدة ومثيرة للجدل، وهي مهمة شعروا أن من الأفضل تركها للأعضاء المنتخبين في المجالس التشريعية للولايات. ورأى البعض الآخر ، وهم محقون في رأي كاتب هذه السطور ، أنّ المحكمة العليا قد انتهكت قدسية الحياة البشرية، بإصدار قرار (رو ضد ويد) المشؤوم الذي يسمح بالإجهاض حتى لو كان مقيداً.

وعلى أية حال، فإنّ الشيء المؤكد هو أنّ قرار (رو ضد ويد) سيكون له عواقب هائلة ولكن بعيدة المدى، حيث سيؤثر على العديد من أوجه الحياة للمجتمع الأمريكي، بما في ذلك الطب، والدين، والأسرة.

ضحايا حكم (رو ضد ويد)

وحتى تكتمل الصورة عن بشاعة هذا القرار المشؤوم، وجدت من المناسب عمل بحث موجز عن أعداد الضحايا من الأجنة المجهضة. يشير موقع (أوبريشن ريسكيو)، وهو كما أسلفنا أهم منظمة تناهض الإجهاض في أمريكا، إلى أنّ عدد الأجنة المجهضة منذ صدور القرار عام 1973 حتى عام 2010، بلغ 51 مليوناً من البشر الأبرياء. ولكن لضخامة العدد وعدم حياد المصدر، قررت عمل إحصاء بنفسي من مصدر محايد مثل (المركز الوطني للإحصائيات الصحية) NCHS الأمريكي، حيث يشير إلى أنّ معدل عدد الأجنة المجهضة سنوياً يبلغ مليوناً و 200.000 جنين من البشر الأبرياء وهو ما يشكل نسبة 40 في المئة من عدد المواليد سنوياً الذي يبلغ معدله 3.000.000 مولود نصفهم تقريباً يعتبرون من فئة الحمل غير المخطط له. وهكذا وبحسبة بسيطة تكون محصلة 38 عاماً من عام 1973 حتى وقت كتابة هذا البحث عام 2011، تبلغ تقريباً 46 مليون جنين بريء، وهو رقم هائل ومرعب ولا يختلف كثيراً عن رقم (أوبريشن ريسكيو) البالغ 51 مليون إنسان. ولو أخذنا المتوسط الحسابي لهذين الرقمين، فإنّ النتيجة ستكون 48.5 مليون جنين خلال المدة المشار إليها 1973-2011، ويمكن تقريبها إلى 50 مليون ضحية.

وهكذا تسببت ثلاث ناشطات نسويات: الكاذبة نورما ماكورفي ، والمحاميتان المجرمتان سارة ويدينغتون وليندا كوفي، في صدور قرار تاريخي غير أخلاقي شرّع للإجهاض في الولايات المتحدة، وتأسس على (كذبة) وتسبب حتى عام 2011، في مقتل 50 مليون إنسان بريء تقريباً لا ذنب لهم مطلقاً سوى انحراف والديهما في الغالب أو ظروف أخرى قد لا تبرر ارتكاب جريمة الإجهاض أخلاقياً.

معارضة الحكم

يقوم معارضو الحكم الذين يسمّون أنفسهم (أنصار الحياة) Pro Life في الذكرى السنوية لصدوره بـ (مسيرة لأجل الحياة) March for Life، وذلك في شارع كونستيتيوشن (الدستور) الذي يوجد فيه مبنى المحكمة العليا في واشنطن، وبلغ عدد المشاركين ذات مرة حوالي ربع مليون شخص تقريباً. ويرفع المحتجون لافتات تشير إلى أن القرار يعتبر (تصريحاً قانونياً بالقتل) و(يفتقر إلى الأساس الدستوري الصحيح). ومثل القضاة في المحكمة العليا المنشقين على حكم رو، يؤكد المحتجون أن الدستور صمت بشأن هذه المسألة التي من الأفضل حلها عن طريق المجالس التشريعية للولايات المنفردة والعملية التشريعية عبر الكونغرس ، وليس من خلال حكم مؤبد من المحكمة العليا.

ومن اللافت أنه بعد صدور الحكم قامت العديد من الولايات بسن أو حاولت أن تسن قوانين تحد من أو تنظم الإجهاض، كأن يشترط موافقة الوالدين للقاصرين للحصول على الإجهاض، وقوانين تراضي والدي الجنين على الإجهاض، وقوانين إعلام الأم للأب ، وقوانين تتطلب أن يكون الإجهاض في المستشفيات وليس في العيادات، وقوانين تمنع التمويل الحكومي لعمليات الإجهاض، وقوانين تفرض فترات انتظار قبل الإجهاض، وقوانين تقضي بقراءة ومشاهدة الحامل أنواعاً معيّنة من الأدب والأفلام ومشاهدة الجنين بالموجات فوق الصوتية قبل إجراء عملية الإجهاض. ولعل أبرز معارضة للحكم أتت من نورما مكورفي نفسها (جين رو) ، حيث كشفت في عام 1995، أنها أصبحت مؤيدة لحق الحياة و(معارضة جريئة) للإجهاض كما أسلفنا، ولكن هيهات أن تكفر عن جريمتها الكبرى.

مواقف الرئاسة

عموماً، انقسم الرأي الرئاسي بشكل حزبي حيث أيده أنصار الحزب الديمقراطي وعارضه أنصار الحزب الجمهوري: فقد عارض الحكم الرؤساء الجمهوريين جيرالد فورد ورونالد ريغان، وجورج دبليو بوش (الابن). أما الرئيس جورج بوش الأب فقد عارضه فقط بعدما أصبح رئيساً، حيث تسرّع وصرّح في بدايات مشواره السياسي بما يفيد تأييد حق الإجهاض. وأيّد الرئيس جيمي كارتر الإجهاض القانوني في وقت مبكر من حياته السياسية، وبرر ذلك بمنع العيوب الخلقية وغيرها في الحالات القصوى، ولذلك فهو مؤيد لحق الإجهاض بصفة عامة. وأيد الحكم أيضا الرئيس بيل كلينتون. أما الرئيس باراك أوباما فإنّ موقفه هو: (ينبغي أن يكون الإجهاض متاحاً قانونياً وفقاً لحكم (رو ضد ويد )).

انتهى

الرأي العام

كشف استطلاع لغالوب أجري في شهر مايو 2009 أنّ 37% من الأمريكيين يعتقدون أن الإجهاض ينبغي أن يكون قانونياً في أي أو معظم الحالات، مقارنة بـ 41% في مايو 2008. وبالمثل، أظهر استطلاع مركز بيو للأبحاث في أبريل 2009 انخفاض مساندة الإجهاض القانوني مقارنة مع السنوات السابقة للاقتراع، حيث انخفضت نسبة الناس الذين قالوا انهم يؤيدون الإجهاض في كل أو معظم الحالات من 54% في عام 2008 إلى 46% في عام 2009. وهكذا فإنّ الأرقام السابقة تدل على زيادة نفوذ التيار المحافظ على المجتمع الأمريكي حيث انخفض تأييد الناس لذلك الحكم المشؤوم.

محاولات مستمرة لنقض الحكم

وفي العقود التي تلت حكم (رو ضد ويد)، شنت جماعات مناهضة الإجهاض المعروفة بـ (حق الحياة) Pro-Life، حملات مستمرة لإلغاء هذا الحكم. وعلى الرغم من هذه التحديات، فإنّ المحكمة العليا - رغم تغير تركيبها الأيدلوجي - نظرت في قضايا إجهاض تالية ولكنها أيدت مراراً العناصر الأساسية لحكم (رو ضد ويد) التاريخي، ولا سيما في ما يتعلق بالحق في (الخصوصية)، وليبقى هذا الحكم صامداً ضد محاولات التيار الأمريكي المحافظ سياسياً ودينياً لنقضه.

انتهى

الأسبوع القادم بحول الله وتلبية لطلبات العديد من القراء نلتقي مع مادة عن الشعر، حيث ننشر الجزء الأول من مجموع ستة أجزاء لمقال الشاعر والناقد الأمريكي مايكل دانا جويا (أزمة الشعر والشعراء: لماذا تراجع الشعر عن مركزه على عرش الأجناس الأدبية؟).

Hamad.aleisa@gmail.com - المغرب

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة