Culture Magazine Thursday  14/06/2012 G Issue 377
الملف
الخميس 24 ,رجب 1433   العدد  377
 
البابطين في عين الشمس
د. إبراهيم السعافين

 

تعود بي الذاكرة إلى منتصف التسعينات حين أتيحت لي فرصة الانضمام إلى مجلس أمناء مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بصحبة نخبة ممتازة من الأدباء والمفكرين والأكاديميين المرموقين، هذا المجلس الذي اضطلع بمهمات مفصلية في تاريخ المؤسسة وظهر في عهده معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، وخطط لشقيقه معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، مما يدل على أن مؤسسة الجائزة تعمل بروح المؤسسة التي تستمد قوة الدفع فيها من فكر رئيسها وروحه المتقدة وحماسته التي لا تخبو، يعينه على أداء هذه المهمة النبيلة الأمين العام للمؤسسة الأستاذ عبدالعزيز السريع.

عرفت أبا سعود شخصاً يقظاً يستمع ويحاور ويطرح الأفكار والمقترحات ويتداول المشاريع المستقبلية العاجل منها والآجل، حتى إذا نضجت الفكرة واقتنع بجدوى تنفيذها يمضي في ذلك دون أن يثنيه عن التنفيذ عظم التبعة ولا فداحة المشقة ولا حجم النفقات الباهظة.

ولقد سمعت عدداً من المتسائلين عن الدوافع التي حدت بعبدالعزيز سعود البابطين للقيام بهذا المشروع الضخم على ما يتكلفه من نفقات، وما الذي يجعله يقيم الندوات المصاحبة وما الذي يجعله ينفق على طباعة الكتب والدواوين والإصدارات المختلفة؟ أسئلة متوقعة وربما مشروعة، ولكن المتسائلين يجدون الإجابة المريحة حين يعلمون أن الرجل صاحب مشروع وصاحب رسالة، فهو وطني غيور ينتمي لأمته العربية الكبيرة، ويغار على دينه وثقافته وحضارته، تؤرقه قضاياها، وتحرك الدمع في عينه نكباتها ومآسيها. فلقد سمعته في أكثر من مناسبة يتحدث عن فلسفته في الحياة ببساطة: إن نعمة الغنى تستوجب الشكر والعرفان، فلا قيمة للمال إن كان خزناً وكنزاً، بل هو أداة وآلة ينفقها في الوجوه المختلفة الواجبة، فعبدالعزيز البابطين عصامي جلب الثروة بكده واجتهاده، وعرف معنى التعب والمشقة، فرأى في البذل والمعونة والإحسان واجباً ولذة، وأنا أعلم كم قضى من حاجة لذوي الحاجات، وكم سدّ ثلمة لبعض من كان صاحب عزة فأوشك أن يذلّ، يعطي من دون أن ينتظر شكراً أو ثناء.

لعبدالعزيز سعود البابطين أيادٍ كثيرة في الخفاء كما لديه أيادٍ كثيرة في العلن، وأما أياديه في العلن فليست مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري إلا واحدة مما يبذله في العلن بقيمة جوائزها وندواتها المختلفة ومنشوراتها، فأبو سعود ينشر الخير والمعرفة في كل مكان، فعشرات الطلاب من أنحاء العالم العربي والإسلامي يدرسون على حسابه في المعاهد والجامعات، وكراسي الأستاذية للدراسات العربية والإسلامية في الجامعات المختلفة ولاسيما الجامعات الأندلسية، عدا الكثير من دور العلم والمستوصفات والمستشفيات والمدارس ودور العبادة التي تجعله واحداً من أهم رعاة العلم والثقافة والخير والعدالة الإنسانية في أمتنا وفي العالم.

عرفت أبا سعود عن قرب، فرأيت فيه مخايل الذكاء،ورأيت فيه رقّة الحاشية، ونقاء السريرة، وجوهر الوفاء، والبساطة الممتنعة فهو في بساطته مهيب لا تقتحمه العين، وأذكر مرة أنه دعا مجلس الأمناء إلى وليمة في بيته في مزرعته بكنج مريوط قرب الإسكندرية وبدا فرحاً بالملامح التراثية الوطنية للبيت، بالحلقة التي تدق الباب للاستئذان بالدخول، وبخشب الشندل الذي يتوسط السقف وبكل صغيرة وكبيرة يذكره ببيوت الآباء والأجداد. وعلى ذكائه وخبرته العميقة بالناس والحياة ودنيا الأعمال، يظل أبرز ما في روحه الشاعر الذي يترجم الشعر عبارة وممارسة، فروح الشعر تنفي عنه الكبر وإن لم تحجب عنه نبض الكبرياء، وأحسبه إنْ خيِّر بين شعره وماله فلن يضحي بالشعر دون أن تنقضي عليه النفس حسرات، فهو يعرف قيمة الشعر ويقدرها حق قدرها ويعرف أن كثيراً من أصحاب الجاه والسطوة والمال يحلمون بأن يحتويهم عالم الشعر بين جانحيه.

ولا بد من الإشارة إلى أن أبا سعود رجل يحب الحياة، ولكنه يحبها في اعتدال وبساطة، يتمتع بها في صحبة صديق وفيٍّ ب اقٍ من عهد الصِّبا والشباب على عهد الأخوة والصداقة، أو في رحلة قنص وصيد في أماكن مختلفة من العالم، أو في رحلة استجمام، أو في لهو بريء سياجه الوقار والعفة والشمائل السنية، وأبو سعود من أوفى الناس لأصدقائه ومعارفه دائم السؤال عنهم في أحوالهم كافة ولا يقصِّر حين يقصِّر كثير من الناس، ولعل سعي أبي سعود في إصلاح ذات البين في كل مكان يحل فيه من الجوانب التي لا يعرفها كثير من الناس، حتى لو كلفه ذلك العنت والمخاطر.

هذا الرجل منهجي في تربيته؛ لم يأخذ نفسه بالقوة والصرامة وحسب، ولكنه أخذ أبناءه فلذات كبده وقرة عينه بالصرامة والحزم، فلم يكن يسمح لأحدهم بعد تخرجه في الجامعة بأخذ موقعه في سلسلة شركاته وأعماله الممتدة قبل أن يعمل موظفاً عادياً في مكان آخر، حتى يعرف قيمة العمل والوقت والدوام وتبعات العمل، حتى إذا حصل الخبرة العملية استدعاه ليأخذ مكانه في موقعه الجديد برعايته وتحت عينه، فالرجل مدرسة في الخبرة والمعرفة والإدارة، يتجاوز في مكانته رجل المال والأعمال ليدخل في دوائر كثيرة أكسبته مكانة وشهرة وقيمة واحتراماً عز له نظير.

وإذا أمعنا النظر في ما ناله من تقدير وتكريم، فإن هذه العجالة لا تكفي لتعداد ما ناله من جوائز وأوسمة وشهادات فخرية . لقد كرمته بلدان كثيرة ونال عشر درجات الدكتوراه الفخرية من غير جامعة ودولة، وحصل على العضوية في مجالس أمناء المجامع والمؤسسات والجامعات وفي الجمعيات والروابط الثقافية ونال من التكريم والتقدير في أماكن مختلفة في أرجاء المعمورة الكثير الذي لا يتسع لذكره المقام، وحصل على الأوسمة الرفيعة والجوائز من دول شتى في الشرق والغرب، وكان موضع الحفاوة على مستوى الأفراد والهيئات والمؤسسات والدول . وهذا التكريم والتقدير نابع من اعتراف حقيقي بعطاء هذا الرجل الذي بذل بسخاء في سبيل وطنه وأمته والإنسانية جمعاء، فشارك الناس ثروته وما مَنَّ الله به عليه من خير كثير.

لم يكن إسهامه الثقافي البارز في الجوائز السنية التي أسسها وخصص لها وقفيات مستقلة من مثل (جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري) و(جائزة عبدالعزيز سعود البابطين (أحفاد الإمام البخاري) في الدراسات الإسلامية لترميم الجسور الثقافية الأصيلة بين الأمة العربية والدول الإسلامية المستقلة حديثاً في آسيا، وإنما هناك مشروعات ثقافية أصيلة تدل على الغيرة والوعي والانتماء منها مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي في الكويت وهي مكتبة ضخمة متخصصة تحرص أن تضم كل الشعر العربي مطبوعاً ومخطوطاً إلى جانب الدراسات التي تناولت الشعر العربي في عصوره المختلفة.

ولعل تأسيس مكتبة البابطين الكويتية في القدس من أبلغ الإشارات على حرص الرجل على الامتداد إلى قلب فلسطين لرفدها بالثقافة العربية على الرغم من هول الحصار الجائر، وكان أبو سعود حريصاً على أن تكون في قلب القدس القديمة قبل أن تلحق بجامعة القدس لأسباب فنية ولوجستية. وكانت جائزة البابطين الكويتية للشعر العربي في فلسطين تصب في الهدف نفسه؛ فقد خصصها للشعراء الشباب من أبناء فلسطين الذين يكتوون بالاحتلال ويبلورون نهجاً جديداً في صياغة قصيدة تستوعب الواقع وتمتد من خلال لغتهم الشعرية العربية إلى آفاق جديدة.

لقد ظلت فلسطين حاضرة في وعيه وفي قلبه ولا تزال، وما تكريم والدة الشهيد محمد الدرة في دورة الجزائر عام 2000م إلا مثال على هذا الحضور النبيل الذي تجلّى في ديوان كامل لشعراء العربية في مختلف أقطارها عن الشهيد محمد الدرة.

وما البعثات والمراكز الحضارية ومركز الترجمة والكراسي وجائزة عبدالعزيز سعود البابطين العالمية للدراسات التاريخية والثقافية في الأندلس، إلى جانب المدارس والكليات المنتشرة في العالم، مشفوعة بالمشاريع الإنسانية المختلفة، إلا صورة واضحة عن طبيعة الرجل الإنسان الذي تجرَّد من الذاتية والشخصنة وحمل في قلبه وعقله وروحه رسالة ثقافة وحضارة أمة، وأثبت أن أمتنا ولود تلد الرجال المخلصين في الخطوب الشديدة وفي المفاصل التاريخية التي تعاني فيها الأمم من الانسحاب والانكفاء خلف السهل والتافه والهين، فتفاجأ حين تدلهم الليالي السود برجال من وزن أبي سعود وصلابة عوده وسخائه ليكون النور الذي يسطع في الظلام.

أكاديمي أردني

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة