Culture Magazine Thursday  15/11/2012 G Issue 385
عدد خاص
الخميس 01 ,محرم 1434   العدد  385
 
صوت الوجدان في شعره
د. يوسف نوفل *

 

من يتأمل المشهد الشعري العربي المعاصر يقف أمام حقيقة فنيّة اقتنعْت بها خلال متابعتي، ودراستي للإنتاج الشعري المعاصر، هذه الحقيقة هي تراجع المصداقية الفنية للشعر التراثي الفصيح، في مجمله، أمام الصدق الفني، والثراء الوجداني الماثلين، بعمق، في شعر العامية بمختلف أنماطه، وقوالبه،ولهجاته العربية، لا نستثني من ذلك الحكم إلاّ ما ندر من نماذج فصيحة تراثية ترتقي بارتقاء أصحابها من الشعراء الأصلاء، المقدّرين لدور الشعر التراثي وتاريخه العريقين، وتعود بنا إلى ذلك العبق الفني العتيق في تراثنا العريق في عصوره الشعرية الذهبية.

وليس هذا الحكم عاطفيا. بل هو حكم نقدي فني موضوعي نابع من دراستنا خلال العقود الماضية، ومن وقوفنا أمام استسلام نماذج من الشعر التراثي الفصيح إلى حالة من: النظمية، والتقريرية، والخطابية، والجفاف ناجمة عن غياب النبض الوجداني، المرادف للصدق الفني. وهذا، بعينه، هو ما يجذب المتلقّي إلى كثير من نماذج شعر العامية بمختلف أنماطها، ولهجاتها، من مثل شعر الأمير خالد الفيصل، وما يكتنف مثل هذا الشعر من إحساس صادق قوي بتجربة فنية صادقة عميقة أجاد الشاعر تقمصها، ومعايشتها، والحياة معها، وفيها، وانصهر في أجوائها بصدق، وحلّق في سماواتها، حتى امتزج القائل بالمقول، أو الشاعر بالشعر، واتحد الواقع بالتخييل، والممكن بالمستحيل ؛ فولد كيان حيّ زاخر بالمشاعر يقنع المتلقي بصدق التجربة الفنية، وأصالتها ؛ فيعايشها، ويمتزج بها، مستسيغا مفرداتها، ومثيراتها، شاعرا باللذة الفنية حسبما ذكر «رولان بارت»، أو الطرب الفني حسبما ذكر، من قبله، « جان بول سارتر». بل يرى نفسه مسوقا إلى الانضمام إلى أفراد تلك التجربة الفنية، والانصهار بها، والعزف على أوتارها، باعتباره أحد مكوّناتها، وكيانا من كياناتها، ومستبطنا لها.لا مجرد مشاهد خارجي لها يعيش على سطحها الخارجي.

وهذا هو ما صاغه الشاعر في مزجه بين: الصوت والمعنى، أو الموقف والدلالة، والمادي والمعنوي، وتراسل الحواس والمدركات، حيث يتجاور صوتان يكوّنان أطراف المشهد الشعري الماثل أمامنا بحيوية ونبض.

يتمثّل هذان الطرفان، أو الركنان في: (هو، وهي)، أو (أنا، وأنت)، حيث تبرز علامات الذات الناطقة من ضمائر: أنا، وتاء الفاعل، وياء المتكلم، أو الذات المخاطبة، بفتح الطاء، من ضمائر: أنت، وكاف المخاطبة، حتى يصل الأمر بحضور الذات الشاعرة أن تقوم قصائد بعينها على ياء المتكلم كقصائد: (أنا تسلى)، و(حوّل سحابي)، و(غريب ومسافر)، وكأنها خيط من خيوط السّرد الذاتي، وحديث النفس، ونجواها، ولا ينشأ الوجود العاطفي الوجداني لهذين الطرفين في فراغ كوني، أو في هيولى هائمة. وإنما ينضم إليهما طرف ثالث، قام الشعر (بأنْسنته)، وفق منهج الرومانسيين الخلّص الذين يخلعون على الكائنات، ومفردات الكون سمات تمنحها صفات العاقل في تصوير(تشخيصيّ) محسوس، نرى فيه الليل، أو البحر، أو الموج، أو النجم، أو القمر، أو السحاب، أو الزهر (يصمت، ويبكي، ويتكلم)، أونراه (يسأل، ويجيب، ويؤْنس، ويأْنس)، وذلك في مثْل قصيدته (يبكي الصوت):

يصمت الليل والتنهيد يحكي

والمعاليق في قلبي يبيسهْ

ياحبيبهْ سألت الليل انا عنك

وكل نجم فقد مثلي أنيسهْ

هل دمعي وقام الليل يبكي

والقمرْ نشّ من فرقى جليسهْ

وهكذا كل ما يعود إلى مثْل:

(موجة بحرك)، و(الشط)، و(البحير)، و(الزهر)، و(أساهر النجمات)، وذلك بما لفعل (أساهر) من المفاعلة، أو المشاركة بين الطرفين ؛ فالتعبيران: (يساهر)، أو(يسامر)، وما يشابههما يستلزمان تبادل إرادتين للسهر، أو السمر ؛ لأن (فاعل) تقتضي (المفاعلة)، وعلى هذا نجد أن يساهر تقتضي ساهرين، ويسامر تستلزم مسامرين:

يا سامرين الليل في بحر الأشواق

ياليتني معكم يلوح شراعي

في غربتي عارضْت انا ركب الأغراب

أشدّ.. وأنزل.. والليالي ركايب

في غربتي.. مريت رجلي وركاب

أرزاق.. من رب الخلايق، وهايب

تنشط تلك العناصر جميعها في حركة زمانية ومكانية حيوية يتجسد فيها امتزاج عنصريْ المكان والزمان، وفيهما تكتسب الذكرى (أنْسنة)، أي اكتساب صفات الإنسان، وتشخيصا، وتجسيدا:

في غير الزمان.وفي نفس المكانْ

مرّتني الذكرى وانا واقف

في نفس المكان في غير الزمان

وهنا تتجسد الغربة التي يعاني منها كل المبدعين بمختلف إبداعاتهم الأدبية، واتجاهاتهم الفنية، تلك الغربة التي تحرّك الوجدان الشعري وتثْري عاطفة الشاعر وتحرّكها، فكانت وراء الأعمال الفنية الشهيرة الكبرى في الآداب العالمية، سواء أكانت تلك الغربة مادية، أو روحية، لأنها هي التي تستثير الشعر، وتحركه، وتمنحه الدوافع، وتمنح الشاعر قدرات فنية هائلة، سجّلتْ لنا تراثا أدبيا هائلا عبْر العصور، وعبْر اللغات. وتتجلى تلك النظرة الفنية لدى لشاعر الأمير خالد الفيصل في مثل قصيدتيْ: (غربة الروح)، و(غربة الأواق)، وما نسج على منوالهما من شعره:

قامت تعاظم غربة الروح ياسعود

تغرّبْت وسط الجسد روح مجحود

وبما أنْ الشعر لغة ذات مستوى يرتقي فوق اللغة الأدبية بعامة، وبما أنه قائم على التصوير والمجاز بصفة أساسية، فإنه لا يمتطي جواد تلك الآليات الفنية إلا من أوتي خيالا مجنّحا ذا أجنحة قوية محلّقة، يصوّر الصورة الشعرية بريشة من خيوط ساحرة خلاّبة، ولغة معبّرة زاخرة بالمعنى والدلالة، بليغة الأداء والاشتقاق، قربية إلى المعجم الشعبي، والاستخدام اللغوي، خالية من الغرابة والتصنّع، وتلك سمات الأعمال الشعرية الصادقة.

* أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة