Culture Magazine Thursday  19/04/2012 G Issue 370
فضاءات
الخميس 27 ,جمادى الاولى 1433   العدد  370
 
لا تماثيل للنقاد
د. لمياء باعشن

 

تربط الناقد بالمبدع علاقة شائكة تتسم بالتوتر والشد والجذب، فبمجرد خروج العمل الفني إلى حيز الوجود يبقى المبدع في حالة قلق وترقب، ويبقى منتظراً أي صدى لعمله. قد ينتشر عمله ويحقق جماهيرية واسعة، ومن حقه أن يرى في ذلك الانتشار علامة قبول ونجاح، لكنه يظل يتطلع إلى شروح التلقي. كل الذين يقتنون العمل أو يقبلون عليه لا يتقنون التحدث عنه، وارتفاع مبيعات رواية ما، مثلاً، لا يضمن لمؤلفها مطلقاً أن من اشتراها قد قرأها، وإن أيقن أنه قرأها إلا أنه سيتمنى لو عرف رأيه فيما قرأ، لكن الجماهير الغفيرة تظل على مسافة من الشك والصمت.

من بين كل المتلقين لا يتمكن إلا القلة من توفير الصدى المطلوب: هم النقاد وحدهم القادرون على التعبير عن قيمة الرواية، والنقاد هم الذين سيسلطون الضوء على زوايا النص المظلمة، هم الذين سيؤولون ويكشفون ويمنحون العمل المنقود حيوات متعددة. هل يعترف المبدع للناقد بأي جميل؟ على العكس تماماً، فهو إن رضي عنه فذلك لأنه التفت لعمله ومدحه، ورغم ذلك فهو يعيّره بمقولة أنه يقتات على فتات إبداعاته، فهو طفيلي وعالة عليه لا يحسن سوى إعادة اجترار إنتاج عبقريته الأصيل.

يقول جورج ستاينر، وهو ناقد وأديب في نفس الوقت، مقولة تبدو جائرة في حق النقد: « من سيرضى أن يصبح ناقداً لو استطاع أن يصبح مبدعاً؟ من سيرضى أن يبذل الجهد المضني لاستخراج الرؤى الفنية عند ديستوفسكي لو استطاع أن يكتب كلمة من رواية الإخوة كارامازوف، أو أن يناقش التوازن الشعري عند لورانس لو استطاع أن يصف عصفة الريح الحرة في قصيدة قوس قزح؟»

يضعنا جورج ستاينر بمقولته هذه على محك الاختيار بين الإبداع والنقد بطريقة تظهر تمييزاً للأدب على النقد، لكننا لو تأملنا النص جيداً لوجدنا أنه، وهو العارف بالممارسة الإبداعية والنقدية بنفس القدرات، يلفت الانتباه إلى أمرين: أن الناقد يستطيع أن يكتب أدباً، فستاينر ناقد قادر على الإنتاج الأدبي. ثم ننتبه إلى أن الإنتاج الإبداعي عند ستاينر لا يتطلب جهداً كبيراً، فالموهبة الجبارة تمنح المبدع وحيها وما عليه سوى الانصياع. ثم يأتي دور الناقد المرهق والذي يستلزم جهداً منهكاً وتحصيلاً معرفياً ضخماً يمكنه من الغوص في أعماق النصوص واستخراج دررها. إذاً، من سيختار العمل الصعب لو كان بإمكانه تكوين إبداعات تأتي بسهولة..!!

هل يغيظ الناقد أن يدعي المبدع أن النقد تابع للإبداع ولا يوازيه؟ بالطبع سيغيظه لو تصورنا أن كل ناقد يقف على خط الانتظار يستجدي الكاتب أن يرمي له بسطوره حتى يجد له غرضاً في الحياة. النقد والإبداع عمليتان متداخلتان ومترابطتان بلا تبعية، والنقاد في حالة قراءة دائمة لكل المعارف يستزيدون من مناهل مختلفة، ثم ينظرون إلى كل النصوص من حولهم، إبداعية أو اجتماعية أو تراثية أو دينية، ولن يتوقفوا عن هذه الممارسة النقدية إن توقف الكتاب عن الإبداع، خاصة في عصر ما بعد العولمة والنقد الثقافي الذي يحول كل ما حولنا إلى نصوص وعلامات ذات دلائل قابلة لإنتاج المعنى.

حين يزداد تعالي المبدعين على النقاد يتعامون عن وظيفة النقد الجادة ويرددون نصيحة الموسيقار الفنلندي جان سيبيلس الذي اتخذ النقاد من سيمفونياته موقف المعارضة والاستحسان، لكنه لم يكن يأبه بهم: « لا تعطي ما يقوله النقاد اهتماماً وتذكر أن التماثيل لم تنصب لهم أبداً». ونستطيع أن نفند مفخرة سيبلس بسهولة، فالتماثيل قد نصبت فعلاً للنقاد، مثل: تمثال ولتر بياتر في أكسفورد، وجون رسكين في كسويك، وليتون ستراتشي في بلومزبيري، ودوروثي باركر في نيويورك، وتمثال فرانك ليفيز في كامبردج وكينيث تينان في لندن وتشارلز سانت بوف في باريس.

إضافة إلى ذلك فإن النقاد الذين يقومون بدراسة النصوص وتقييمها هم شعراء وروائيون ومسرحيون وفلاسفة وعلماء واقتصاديون، ومن يدرس النقد الأدبي يتوقف عند أرسطو ووردزورث وأوسكار وايلد وفرويد ولوك وديكارت وهيجل وماركس وتشومسكي وغيرهم من العلماء والمفكرين، وكثير من هؤلاء قد أقيمت لهم التماثيل والنصب التذكارية.

ما هي النصيحة التي يقدمها سيبليس بإهماله للنقاد؟ إما أن يتجاهل المبدعون آراء النقاد فيضمنون تحقيق النجاح الباهر، وإما أن يتوقف النقاد عن مهمتهم لأنهم فاشلون حتماً. وحين نضع النصيحة على محك الواقع والمنطق نجد أنها لا تتماسك، لذا فمقولة سيبليس هي معادلة فاشلة وسخيفة، خاصة حين يرددها مبدع عربي، وسعودي على وجه الخصوص، في بيئة مجتمعية تحرم تنصيب التماثيل من أصله !! لكن المبدع يزداد غياً ويظن واهماً أن الخلود من نصيبه بينما يموت الناقد مجهولاً.

يدعي المبدع أنه ليس بحاجة للنقاد وأنه مستقل عنهم ولا يستفيد من آرائهم، ولكنه حين يعبر عن ذلك تجده ساخطاً وناقماً بشكل ينم عن رغبة دفينة في أن يتحرك الناقد ليتولى عمله بالتحليل والكشف. حين يصف الروائي حامد بن عقيل النقاد بأنهم « أشباه مرتزقة، لا يطرقون الأعمال إلا للي أعناقها في سبيل خدمة مشاريعهم النقدية القاصرة عن قول شيء يمكن الاستفادة منه»، تستطيع أن تستشف نبرة الغضب والإساءة المقصودة للنقاد بالانتقاص من عملهم (الحياة, 12 نوفمبر 2011). أما حين يسخر منهم الروائي محمد المزيني قائلاً أنهم بحاجة ماسة للكتابة عنهم وتسويقهم من جانب الروائيين الذين يدعوهم « للأخذ بيد النقاد والكتابة عنهم فسيأتي يوم ويطويهم النسيان» (الجزيرة 26 شوال 1430)، فإن الاعتراض على صمت النقاد تعلو نبرته إلى حد تبادل المواقع معهم بغرض تدريبهم على التفاعل مع النصوص الروائية المحلية.

وفي حوار مع الروائي الإنكليزي المعاصر جوليان بارنز نقله حمد العيسى (في العدد 1433 من الثقافية)، تسأله الصحفية: لقد قلتَ ذات مرة (كاتب رديء أفضل وأهم من ناقد ممتاز). فهل تطور موقفك إيجابياً أو أصبح أكثر ليونة اتجاه النقاد؟ فيرد: أعتقد أن التطور الوحيد في تفكيري عن النقاد - وأنا لا أفكر كثيراً بهم - هو ربما أنني صرت أشعر بتعاطف واحترام للنقاد الأكاديميين أكثر من النقاد الصحافيين.. الذين.. يتجرأون على النقد من دون أية مهارة تذكر فيشكلون عقبة كبرى تسبب (سوء فهم) للقراء».

جيد أن يفرق بارنز بين نقد جاد متزن وآخر انطباعي متعجل، لكن بقية الحوار يكشف لنا أن احتجاج بارنز على النقد عائد إلى نقطتين: أولاً هو يتباهى بأنه لم يقرأ مطلقاً عرضاً نقدياً جعل منه كاتباً أفضل، لكنه في نفس الوقت يعترف بأنه لم يقرأ أية مراجعة نقدية لكتبه منذ زمن طويل، فكيف يتوقع أن يتأثر بالمراجعات النقدية إن لم يكن يقرأها؟؟

ثانياً نكتشف أن بارنز ساخط على المراجعات النقدية فقط لأنه يرى أن وظيفة الناقد هي الشرح، والاحتفال والتشجيع بدلاً من التنقص، فهو كما يبدو لا يتقبل « الانتقادات التي أعتقد أنها غير عادلة، أو الترحيب بإهانتي. لا أعتقد أن مثل هذه الممارسة الكيدية السائدة تفيد الكاتب. ولذلك في النهاية، تجد نفسك تستعرض المراجعات بحثاً عن كلمات الثناء..»

إن كان المبدع في حالة استغناء تام عن النقد الذي لا يعني له شيئاً ويدعي أنه لم ينشغل مطلقاً بالتصورات النقدية التي يتعاطاها النقاد، فلماذا ينشغل بقضية المواكبة ويحنق علي النقاد لعدم متابعتهم للساحة الأدبية وتقييم الأعمال وتسليط الضوء عليها؟ لماذا يغضب المبدع كما فعل بارنز وينقلب على النقاد لو نطقوا بكلمة سلبية في تقييمه إن لم يكن مهتماً بما يكتبون؟ وهل يرى المبدع أن النقد يجب ألا يخرج عن المهام التي حددها بارنز في حواره: شرح واحتفال وتشجيع وتطبيل أجوف..؟؟

lamiabaeshen@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة