Culture Magazine Thursday  19/04/2012 G Issue 370
فضاءات
الخميس 27 ,جمادى الاولى 1433   العدد  370
 
مفاهيم السلفيّة
بين تقليد الغائب وتمثيل الحاضر
ياسر حجازي

 

اسْتَكانتْ وأَلِفَتْ أذهان العامّة والخاصّة عند سماع كلمة (سلفيّة) حملانها على معنى (التقليد) لما قدّم له دُعاة الخطاب ودافعوا عنه، قاصرين الفهم عليه، حتّى بقيت دلالة المفهوم محصورةً على هذا الحملان؛ والمسألة التي تناقشها هذه المقالة هي: «مدى صوابيّة حصر مفاهيم السلفيّة وانغلاقها على معنى التقليد ودلالة الإتباع وتمثيل الغائب، وإزاحة معنى التجديد ودلالة الإبداع وتمثيل الحاضر». فهل ثمّة سلفيّة تجديد مثّلت الحضور؟ كما أنّ هناك سلفيّة تقليد مثّلت الغياب؟ وإلى أيّ مدى نملك شواهد تنفي أو تثبّت الضدّيّة بين التقليد والتجديد والغياب والحضور في ممارسات الرعيل الأوّل من السلف الصالح، أو مؤسسي المذاهب الإسلاميّة، وصولاً للنهضويّين والتنويريّين.

لطالما ميّزَ القومُ السلفَ الذين يتَّبعون (بالصالح) فذلك إقرار ضمني يحمل معنى وجود (سلف غير صالح) ممّا لا يعارض المحتوى التاريخيّ للمفهوم ودلالاته الشموليّة، وهذه مسألة تخص المعايير التصنيفيّة وهي ليست محلّ المقالة؛ لكن ماذا عن مسألة (التجديد/ التقليد) و(الحضور/ الغياب) داخل نطاق السلف الصالح، والتي هي محلّ خلاف اليوم بين دعاة الخطاب وبين تيّارات تسعى لتجديد الفقه الإسلامي وعصرنته تبعاً للملاءمة، الظرفيّة، المدنيّة.

هل كان السلف الصالح مقلّداً وناقلاً فحسب أمْ مارسَ التجديد والعقل أيضاً؟

إنّ الدلالات التي يتضمّنها (مفهوم السلف) ترتكز على المحتوى التاريخي مرجعيّة للمنهج، فلا يمكن إقصاء التاريخ وسجلاّت منجزاته، بينما يؤتى به انتقائيّاً كمصدّقٍ على (فهم نسبيٍّ أحاديٍّ)، إذّاك يكون الاحتكام إليه -على إشكالاته- ضرورة لا مفرّ منها لتبيان آفاق المفهوم وتعدّد مضامينه، كما أنّ عدم اكتمال المفهوم بحملانه على أحاديّة التقليد ونكران التجديد يؤدّي إلى: (تقليص مفاهيم المصطلح، تضيّق الخناق على شرعنة العصرنة، تعثّر تعاقب الأطوار إيجابياً، محو الحضور وصحو الغياب)؛ وبديهيّا يتطوّر الإنسان بالتجديد لا بالتقليد، وبالحضور لا بالغياب؛ وأزعم أنّ ذلك لا يتعارض مع متن الأصول؛ فأيّ دلالات يفصح عنها المحتوى التاريخي لمناهج السلف الصالح الدالة على معاني التقليد والتجديد؟ إذ أنّ الإقتداء يكون باتّباع المنهج التجديدي وليس بمخرجاته الممتثّلة بتشريعات متلائمة مع الظرفيّة؛ والإشكال يتمحور حول عدم التفريق بين المنهج وبين مخرجاته.

على ضوء ذلك: كيف نفهم التشريعيّات والإجراءات التنفيذيّة للرعيل الأوّل؟ ما هي المفاهيم التي تحملها حين تستند في بعضها إلى نصوص صريحة توافقاً وتجاوزاً، وأخرى لم يشر إليها النصّ المقدّس وبقيت مفتوحة لاجتهادات ولاة الأمر وفق مفاهيم الملاءمة الظرفيّة؛ هكذا لا يكون الاجتهاد أصلاً مُنتجاً إن لم تكن أدوات الإبداع إلى جانب الإتباع أيضاً.

المقولة المنسوبة إلى الخليفة أبي بكر الصدّيق: «والله لو منعوني عناق (بعير) كانوا يؤدّونه إلى رسول الله -عليه السلام- لقاتلتهم على منعه» تحمل دلالتي: (التقليد في الإتباع والتجديد في الإبداع). أمّا التقليد فذلك ملحوظ في إتباع مركزيّة جباية الزكاة، والتجديد في ابتداع الاقتتال من أجل حماية المركزيّة. هكذا مثّلَتْ حروبُ الردّة (مفهوم الحاضر/ الحضور) لغلبة مصلحة الهويّة والوحدة، وتمّ التأويل الأوّل للفهم الإنساني ليناسب الظرف.

فأيّ دلالات يمكن اشتقاقها بقراءة التشريعات الأولى في إدارة شؤون الإمارة، وفي مواجهة التحدّيات والمستجدّات، مثل: (إكمال الفتوحات الإسلاميّة، التقويم الهجري، حدود السرقة، حجب الصدقات عن المؤلّفة قلوبهم، صكّ العسس والرقابة، حجر احتياطيات الغنائم، سَنّ حدود جزائيّة جديدة، جمع القرآن، إحراق النسخ المتفرّقة، التنقيط والتشكيل، وضع أسس النحو، ترقيم النجوم، تدوين الحديث، نشوء الفقه والمذاهب، علم الكلام، ازدهار العلوم، بروز الحضارة العربيّة الإسلاميّة) وغيرها الكثير من المسائل التجديديّة.

أليس في تباين الرعيل الأوّل حول مجموعة من المسائل حجّة على التجديد والاجتهاد، فإن كان مرجعهم التقليد تمثيلاً للسلف لما اختلفوا، وإن كان التجديد وتمثيل الحاضر مصدر آرائهم إذّاك تعلو قيمة الاختلاف دعامة لمعنى التجديد والعصرنة.

كلّ هذه الشواهد تفتح آفاقاً وتشرعن جدوى البحث في معاني التمثيل والتأويل الإنساني المناسب للظرفيّة والوعاء المعرفيّ والغلبة المصلحيّة، وتؤكّد أنّ القوم كانوا مجدّدين. فلا يمكن حمل تطوّرهم وإبداعاتهم على معنى التقليد وإلاّ بقيت الأمّة على حال نشوئها الأوّل تناسخاً لا يحيد عن شكل مخرجاتها الأولى، وذلك مخالف لسنن الله في الخلق والطبيعة. فهل كان الخلفاء الراشدون والتابعون ومن بعدهم مُتّبعين أم مُبتدعين؟ وكيف يكون الاقتداء بهم، بمنهج التجديد والتمثيل الأصيل وسنّ القوانين المناسبة للظرفيّة، أمْ بمخرجات المنهج؟

الأصل الإسلاميّ الإيمانيّ ثابت في لغته متغيّر في معانيه وتأويلاته حتّى تتلاءم مع المتغيّرات؛ لذلك فإنّ تفسير هذا الأصل خاضع لمعايير النسبيّة والظرفيّة، وصلاحيّته قائمة ما دامت نافعة ومتمثّلة بالحاضر، أمّا متى ما تغيّرت الأسباب الموجدة للنتائج فإن مدلولات التأويل لن تصمد في مواجهة المستجدّات، لفقدانها شروط علّتها. لذلك تكون مراجعة التأويل ضرورة نهضويّة. ولذلك أيضاً تأتي القراءة الجديدة للأصل إيماناً تنفيذيّاً بأنّ النصّ -وحده- صالحٌ لكلّ زمان ومكان، وله غلبة البقائيّة؛ وإقراراً بتقادم التأويلات التي لا تحمل صفة (البقائيّة) بل صفة (الصلاحيّة) القائمة لقيام الظرف والمنقطعة بغيابه؛ البقاء للنصّ (هذا هو المعتقد)، وميقات الصلاحيّة للفهم. فكلّ بقاء يبقى، وكلّ صلاحيّة مآلها انقطاع.

* قدسيّة النصّ، لا تعني قدسيّة تأويله.

* النص منزّه عن الخطأ والصواب، الفهم الإنساني له يتحمّل الصواب والخطأ.

* منح الفهم الإنساني صفة البقائيّة، هو احتلال للنص المقدّس، فبقائيّة النص تستلزم حكماً أن يكون الفهم الإنساني متغيّراً وفق الظرفيّات والمعرفة (عمراً وصلاحية).

* هجران النص المقدّس يكون بإبطال تأويله تبعاً لتمثيل لحاضر، والاكتفاء بالتأويلات التاريخيّة الممثّلة بالغائب.

الأصل في الحضارة أنّها تمثيلٌ أصيلٌ (حاضرٌ بالتمثيل عن حاضرٍ)، لها قيمة المنجز بالحضور والوجود، والأمم حين تفارق حاضرها تتخلّف عن إنتاج حضارة؛ فهل من غرابة فيما نسوقه؟ أليس غياباً حينما تهجر الحضور، إذ يلوذ دعاة الغياب بتمثيل مخرجات السلف وليس بمناهجهم التي مثّلَت الحضور وأنتجت حضارة شاهدة عليهم؛ فشتّان بين قيمة الإنتاج الحضاري وبين شكل المنتج. وبحالٍ، فإن أيّ مواءمة بين منتجات حضارة ما وبين حاضرها لا تملك صفة بقائيّة تمنحها التأقلم والاستمرارية في مواجهات تعاقب الحضارات والظرفيّات؛ فكيف يتمثّل الحاضر بالحضور حينما يريدون الغياب.

على ضوء الأسئلة والشواهد -التي ناقشتها المقالة-كيف يستقيم الخطاب السلفيّ بإزاحة منهج التجديد الذي عمل به السلف الصالح؟ كيف يكون الخطاب ملتزماً بعلّة وجوده المتمثّلة بالاقتداء بالسلف الصالح حين يكتفي بتقليد مخرجات أزمنتهم الغائبة عن حواضرنا، ويهجر منهجهم في التجديد والاجتهاد وتمثيلهم الحاضر بالحضور.

ختاماً: إنّ الأمّة التي بدأت نشأتها بكتابٍ مقدّس، ولم تكن على رَشَدٍ من قيمة الكتابة، ثمّ يؤول نتاجها الكتابيّ في العلوم التشريعيّة، الفلسفيّة، الطبيعيّة، اللغويّة والأدبيّة آلاف المؤلّفات فلا يُقبل عقلاً حصرَ مفاهيم سلفها الصالح بالتقليد وبتمثيل الغياب، بينما هُمْ أصلٌ في التجديد بما آل إليه مفهومهم للحاضر وقيمة تمثيل حضورهم، حتّى برزت حضارتهم في أصقاع الأرض؛ فهل اكتملت حضارة العرب المسلمين بالتقليد أم بالتجديد! وهل كانت تمثيلاً لغيابٍ أَمْ تمثيلاً لحضور!

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة