Culture Magazine Thursday  19/04/2012 G Issue 370
فضاءات
الخميس 27 ,جمادى الاولى 1433   العدد  370
 
في دلالة النظرية ونظرية الأدب
د. صالح زياد

 

أول ما يثير التساؤل في مصطلح «نظرية» هو مادته الاشتقاقية وهي النظر، وصيغتها وهي المصدر الصناعي. فالنظرية لفظ مولَّد في العربية، وهو لفظ حديث التوليد، وإن كانت العربية تفتقد إلى المعاجم التاريخية للألفاظ التي تصف تولُّد الألفاظ وتطور دلالاتها في الزمن. والدليل على حداثة هذا اللفظ عربياً هو دلالته الاصطلاحية التي تحيل على الترجمة عن لفظ أجنبي هو الآخر لفظ حديث تاريخياً.

ففي اللغة الإنجليزية نجد أن كلمة theory (في الفرنسية theorie) التي تترجم في العربية إلى نظرية، هي -فيما يشرح تولُّدها اللفظي والدلالي ريموند وليمز في كتابه الكلمات المفاتيح نقلاً عن معجم أكسفورد وغيره- تعود إلى القرن 16م من صيغة أبكر منها في الإنجليزية هي theorque تعود إلى القرن 14م، وهي من الأصل اللاتيني theoria ومعناه تأمُّل أو مشهد أو تصور ذهني، والأصل البعيد هو الكلمة اليونانية thea وتعني نظر وtheoros وتعني مشاهد، وهي المادة نفسها التي تعود إليها دلالة مسرح theatre.

وفي القرن 17م كان للكلمة نطاق واسع من المعاني، أولها معنى «مشهد أو نظر»، والثاني «نظرة فيها تأمل» والثالث «مخطط أفكار» والرابع «خطة تفسيرية» والخامس معنى مقابل للممارسة practice. وقد أصبح لها معنى «الفرضي hypothetical أو الافتراضي» في القرن 19م. وهذا النطاق من المعاني يصبح ملبساً لمعناها بمعان أخرى وغير محرر له، ف»التأمل» إذا أخذناه معنى لها يعني أنها بلا علاقة بالممارسة، وفي معنى «مخطط أفكار» تأتي كلمة مبدأ أو إيديولوجيا، وتأتي في معنى «خطة تفسيرية» كلمة قانون.

لكن هذا التعدد المُلْبِس ينتهي عند الإمعان إلى محور لمعنى النظرية ماثل في ترادف الفكر أوالتأمل من جهة والنظر من جهة أخرى. ولهذا كان هذان الجانبان متداولين بالتلازم الضمني أو الصريح في تلك المعاني، وكانا الأساس الذي تولّدت منه الإحالة على النظر في ترجمة المصطلح في العربية إلى «نظرية»، لأن التأمل والفكر في الأشياء هو معنى من المعاني الأساسية التي ترصدها المعاجم العربية القديمة والحديثة لمادة الكلمة «نظر» والنَّظَر -في لسان العرب، مثلاً-: «تأمل الشيء بالعين» و»الفكر في الشيء تقدِّره وتقيسه منك».

وحين نتأمل في المعنى الاصطلاحي لكلمة نظرية الآن نجدها تحمل تلك المعاني اللغوية المتعددة والمتلابسة ولكن بما يركِّبها في منظومة دلالة تزيل التباسها. فالنظرية، باختلاف صيغ التعريف الاصطلاحي لها، لا تعدو أن تكون تركيباً عقلياً متسقاً وشاملاً يفسر عدداً من الظواهر في مجال من مجالات الواقع الطبيعي أو الإنساني، ويربط بين الممارسة أو الوقائع والمبادئ أو القوانين ربطاً كلياً. وهذا معنى يجمع الفرض والتفسير والقانون والمبدأ والنظر في نسق تجريدي متصل بنسق الوقائع والممارسة ولكنه منفصل عنه في الوقت نفسه بسبب طبيعته التجريدية والشمولية التي تتنزل من الوقائع والممارسات منزلة المجموع من الأفراد والكل من الأجزاء والمشترَك من المتنوِّع الذي يتيح استقراؤه استنباط صورة مجردة عامة لتفسيره وتقنينه.

وبالطبع فإن اختلاف مادة الدراسة التي تتجه إليها النظرية بين العلوم الطبيعية والرياضية من جهة والعلوم الإنسانية من جهة أخرى، هو مادة مهمة لتغذية جدل النظرية والوعي بطبيعتها المعرفية ومحفزات اشتغالها. فالنظرية في العلوم الطبيعية تأخذ صفة الانضباط فهي «فرض علمي يربط عدة قوانين بعضها ببعض، ويردها إلى مبدأ يمكن أن نستنبط منه حكماً أو أحكاماً وقواعد» ومثال ذلك نظرية النسبية في الفيزياء عند أنشتاين. ولكن النظرية في العلوم الأدبية والإنسانية لا تأخذ صفة الانضباط والمبدئية والأحكام والقوانين التي تميز النظرية في العلوم الطبيعية والرياضية، وذلك لأنها في مجال ينتقص دوماً من قدرتها على المجاراة للموضوعية واللا شخصانية واليقينية ولا يتيح لها القياس والبرهنة والتجريب بما يجمع بين المبادئ والنتائج على نحو مطلق.

وقد نقول إن سؤال الموضوعية والقوانين كان محركاً لمغامرة التفكير النظري حول الأدب منذ أولياته لدى اليونان والعرب القدامى، فما يثيره النتاج الأدبي من إعجاب وما يصنعه من تأثير هما الداعي إلى محاولة تفسيره وتقنين النظر إليه من أجل تملُّكه وتسخيره والتحكم فيه. لكن المنشأ الحديث للنظرية يحيل، في بعض الوجهات، على تطور العلم والمنهجية في الحقل الطبيعي والتقني، ومن ثم نشأة العلوم الإنسانية في مسافة الاتصال والانفصال عن الحقل الطبيعي والتقني. ولهذا يرجع ميشيل فوكو نشأة العلوم الإنسانية إلى القرن 19م حيث ظرف المجتمع الصناعي، ونشأة البورجوازية، ويرى أن نشأة العلوم الإنسانية شكَّل حدثاً في نسق المعرفة، وذلك في ضوء إعادة توزيع شامل للإبستيمية، فكان لابد لمعرفة الإنسان أن تظهر في هذه الظروف وفي تطلُّعها العلمي للمعاصرة ومن ذات بذرة البيولوجيا والاقتصاد وفقه اللغة مما جعلها طبيعياً تعتبر أحد المظاهر الحاسمة للتقدم الذي حققته العقلانية التجريبية في تاريخ الثقافة الأوربية.

لكن للمسألة وجهاً آخر إذ يمكن أن نقول إن تطور العلوم الطبيعية والتقنية مدين لتطور العلوم الإنسانية، وإن أساس الفكر العقلاني مغروس في الفلسفة والأدب والتاريخ، قبل أن تعرفه فيزياء نيوتن. وسواء أكانت هذه الوجهة واقعية ترتِّب الفكر على الوجود، ومن ثم تقدُّم التطور المادي والاجتماعي في إحداث فكر عقلاني، أم كانت مثالية ترتِّب الوجود على الفكر ومن ثم تحيل التطور المادي والاجتماعي إلى تنامي الفكر العقلاني والأدب الفردي والحر، فإن النتيجة هي فضاء من فكر غامر وشامل يقود إلى وجهة مشتركة للمعرفة الإنسانية والطبيعية، وإلى حركة جدلية من الاتصال والانفصال بينهما من جهة وبين فروع حقليهما من جهة أخرى. ولهذا يمكن أن نسجِّل في مجال النظرية الأدبية إحالتها على مرجعية خارج حقل الأدب، وهي مرجعية تفيض بخطابها خارج حقله الأصلي. فالتعبيرية التي فسَّرت الأدب بوصفه فيضاً للعواطف وتعبيراً عن الذات الفردية، كانت تناظر الشعار الاقتصادي الليبرالي: «دعه يعمل، دعه يمر» بشعارها التعبيري: «دعه يعبر عن نفسه». والخطاب النقدي عند سانت بوف وتلميذه هيبوليت تين مثال للبحث عن قوانين دقيقة وصارمة تماثل قوانين الحتمية في عالم الطبيعة. وليست نظرية الانعكاس تفسيراً خاصاً بالأدب بل هي دلالة الفلسفة المادية الجدلية على تقديم العالم المادي على العقلي. والأمر نفسه يمكن ملاحظته في الشكلية الروسية وفي النقد الجديد والبنيوية حيث يبدو الانبهار بالعلم الطبيعي والتكنولوجي، والدعوة إلى الأخذ بموضوعيته وتجريبيته.

هكذا لا نجد نظرية أدبية خالصة دونما مرجعيات خارج الحقل الأدبي في الاقتصاد أو الفلسفة او علم النفس أو التاريخ أو المناهج الطبيعية أو اللسانيات... الخ ويمكن أن نتعقب، دوماً، مرجعيات أخرى للنظرية في خارج الحقل الذي تتسمَّى به، فالنظرية مجلى للتخالط والتشارك بين مرجعيات مختلفة. وهذا يقودنا إلى اكتشاف دلالة النظرية في ثلاثة محاور: أولها في العلاقة بين البساطة والتعقيد والسطحية والعمق، فليست النظرية مجرد مبدأ أو تفسير أو فرض... إلخ وليست خصوصاً مغلقاً على هذا الموضوع دون غيره. ولجوناثان كولر مثال في توضيح هذه الصفة في دلالة النظرية، وذلك باختبار الاستخدام للفظ نظرية في غير سياقه المألوف، حين يأتي في الإجابة على السؤال: «لماذا انفصل لورا وميشيل عن بعضهما» القول: «تقول نظريتي أن...» فالنظرية في هذه الإجابة في معنى التخمين أو وجهة النظر أو التفسير والتعليل، وهو هكذا تفكير لا صلة له بما سيجيب به أحد طرفي الانفصال، ولا تؤثر فيه إجابتهما، فهو شرح يصعب إثبات صدقه أو كذبه. وليس من المتوقع أن يجيب المجيب بذكر سبب واضح وظاهر للانفصال فيستطرد -مثلاً-: «تقول نظريتي إن انفصالهما يعود إلى علاقة ميشيل الغرامية ب سمانثا» لأن هذا لا يعد نظرية، فلا أحد يحتاج إلى فطنة نظرية ليستنتج أنه إذا كان ثمة علاقة غرامية بين ميشيل وسمانثا فسيكون لها تأثيرها على موقف لورا تجاه ميشيل. وهذا يعني أن الشرح أو التعليل للانفصال لا يصلح أن تسميه نظرية إلا إذا تجاوز الفرضية والوضوح وانطوى على علاقات معقَّدة من الصنف المنظوم بين عدد من العوامل بحيث لا يمكن تأكيدها أو إثباتها بسهولة. ولذلك يستقيم هنا أن نستخدم لفظ نظرية في الإجابة عن الانفصال بين لورا وميشيل، لو كان الشرح لانفصالهما متَّسماً فعلاً بتلك الصفات، مثل أن أقول: «تقول نظريتي إن لورا كانت دائماً تعشق والدها في الخفاء، ولم يتمكن ميشيل أبداً أن يصبح الشخص الملائم لها».

أما المحور الثاني في اكتشاف دلالة النظرية، فيقوم في السؤال عن فردية النظرية وجمعها: لماذا تغدو نظرية الأدب -مثلاً- حقلاً يعيِّن مادته بالإفراد، فلا نقول نظريات الأدب بالجمع وهو الوصف المطابق لتلك المادة من حيث هي عدد لا وحدة، واختلاف لا تجانس؟! ونقول في الإجابة على هذا السؤال إن النظريات الأدبية تتشارك في كثير من العناصر، والنظرية هي مناقشة هذه المشتركات، وهذا يعني أن الدلالة على النظرية بالجمع «نظريات» هو غير ما تدل عليه النظرية من دلالة ذهنية تجريدية لحقل اشتغالها ووجودها، فهي بمثابة اسم الجنس الذي تتنوع أجزاؤه وتتعدد ممارساته. وبالطبع فإن النظرية -مثلما هو كل اسم جنس- لا تقوم من غير هذه الأجزاء المتعيِّنة والأنواع أي بلا عديد النظريات، وهي نظريات تتركَّب بما يشمل جوانب عديدة في طبيعة الأدب وماهيته، وعلاقته بالمجتمع والحياة، والوظيفة والقيمة التي تسمه بناء على ذلك، وما ينشأ عن ذلك من مناهج وطرق لقراءة الأدب ودرسه وإنتاج معرفة به، وذلك في مسافة يصعب تعيين حدودها.

وهذا يقودنا إلى المحور الثالث في دلالة النظرية، وهو محور ينشأ من التقابل بين الثبات والتجدد، والانقضاء والاستمرار. فالتأمل في واقع النظرية إجمالاً والنظرية الأدبية خصوصاً، يوقفنا على تجدُّد النظرية المستمر واستمرارها المتجدِّد. إنها فعل معرفي لا نهائي، وهذه صفة تستمدها النظرية من صفة المعرفة التي تقوم بكاملها وفي جميع مستوياتها -بحسب وصف جان بياجيه- على علاقات التأثير المتبادل بين الذات والموضوعات، بحيث تغدو علاقاتٍ تنمو فيها بالتدريج قدرات الذات النظرية والعملية على التواؤم والاستيعاب. ونتيجة ذلك أن معرفتنا بالموضوع لا تنتهي أبداً ولا تعرف حداً، لأنها سلسلة من المقاربات المتتالية والمتعاقبة باستمرار. إن النظرية -هكذا- انفتاح دائم على ما يتحدَّى المستقر والسائد والطبيعي والبديهي، فهي تعيد النظر مرة تلو أخرى في المفاهيم والمبادئ والتصورات التي تحكم القراءة، ولا تنفك تنأى بالقراءة -فيما يقول رامان سلدن- عن أن تكون نشاطاً بريئاً يتقبل الوعي الأدبي فيه بسذاجة واقعية الرواية أو صدق القصيدة، أو يقف على المعنى على طريقة المقصد أو المراد التي تتردد في شروحات الشعر القديمة ومنها ما نجده في تراثنا العربي. ومعنى ذلك أن النظرية تفكير حول التفكير النقدي الأدبي، فهي مبذورة في التوتر الذي يعاكس مقولة أو وجهة نظرية بأخرى، ويكمن في مسافة الانقسام بين الذات المفكرة وأفكارها، مثلما يكمن في العلاقة النقضية بين الأطروحات النظرية وتصوراتها النقدية. وعندئذ فإن نظرية الأدب من حيث هي ممارسة معرفية ليست في إحصاء المناهج والمذاهب والأفكار والتعرف عليها، وإنما هي بصر بحركة التحول المعرفي المتنامي حول الأدب.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة