Culture Magazine Thursday  20/09/2012 G Issue 380
فضاءات
الخميس 4 ,ذو القعدة 1433   العدد  380
 
الأرصفةُ الإلكترونية
سناء محمد ناصر

 

الأرصفة مرآة الشعوب، عليها آثار نزقهم، غضبهم، جمالهم، إبداعاتهم، ما يحملونه من حب، من بياض، وما يحملونه من سواد ومن حنق؛ آثار سكان مدينة ما على أرصفتها ليس سوى تجريد بشريتهم بما تحمله من نزوات و من آراء ومن مواقف. الطرقات باكتظاظها وحميميتها وبخوفها وألمها واعتدالها وإخفاقاتها ليست سوى الأوكسجين الذي تفتح البيوت نوافذها عليه كي تتنفس، وفي الوقت ذاته، كي تبث ما ضاقت به أسوارها، بل إن ثمة مواطن لا تأبه بما أحكمت عليه البيوت أبوابها، فتستمد فردانيتها مما تواطأ أفرادها على ممارسته علناً على الأرصفة، وثمة مدن عرفت بمبدعيها المتجولين، الذين يعبرن عن أفكارهم ورؤاهم ومواقفهم على أرصفةٍ يتماهون فوقها وكأنها خشبة مسرح ممتدة؛ فلا يمكنك أن تشير إلى فن الشوارع والأرصفة دون أن تتذكر (Montmartre) في باريس، تلك المنطقة التي فيها يتبادل الفن والعبث أمكنتهما دون صراع والحكم أخيراً للمارة.

الأرصفة هي كراسة ممتدة يرسم فيها العبور أفكارهم ويتركون فيها بصماتهم، الأرصفة وطن الأقدام، لا تفرّق كثيراً بين ماكث وعابر، وبين عابر للمرة الأولى أو عابر يتكرر، هي تأبه بأثر المرور فحسب، بمن يترك فيها بصماته، وتعدد الآثار فيها يحيلها إلى «براويز» لا تكتمل صورة المكان إلا بها؛ ولذا تبدو الصورة التي نتحدث فيها عن مجتمعنا ليست ذات صفاء كامل، فمرايانا/ شوارعنا لا تعنينا البتة، وثمة شوارع تخلو من الأرصفة، بل تكاد تخلو من البشر، وطرقنا ممهدة لكائناتٍ فولاذية وإطاراتها وحدها قادرة على ترك أثر؛ ذلك لم يتح لنا اختبار احتفالية الشوارع والأرصفة، وهذا لم ينعكس فقط على اختبار الفنون التي تنبع منها، بل انعكس سلباً على مدى القبول الذي نمنحه بعضنا البعض، مدى أهمية احتواء الغرباء، وتبادل السلام مع من نعرف ومن لا نعرف، التعاليم والآداب التي لم نفتأ ننظّر في أهميتها وفي ضرورة تعليمها لآنفسنا ولأبنائنا، تلك التي لن نحتاج إلى تكريس التأهيل لها إلى هذا الحد لو كنا منذ صغرنا نسير في شوارع مكتظة، عامرة بمارةٍ تصافح أكتافهم أكتاف بعض دون تكلف.

حاجة أفراد المجتمع إلى التواصل والتلاقح المعرفي، العفوي، العبثي بعيداً عن اللقاءات الممنهجة المنظمة، تواصلٌ حياتي، مرتجل في مقهى أو ساحةٍ أو رصيف، حاجةٌ ملحة وإن لم نلتفت إليها، لكن دواخلنا تتعامل معها كحاجة بشرية و تسعى إلى اشباعها فنياً وجمالياً واجتماعياً، لذا تعامل معظم أفراد المجتمع مع العالم الافتراضي/الالكتروني كعوالم بديلة، فالمنتديات معظمها لم تكن بالكيفية التي أنشئت لأجلها، متخصصة في موضوع ما أو قضية ما، كانت بالنسبة لنا ليست سوى كراريس بحجم حائط نخربش فيها، ونوقّع ذكرياتنا، ونخرج منها بأصدقاء افتراضيين، ثم مواقع التواصل الاجتماعي وبالآخص (twitter)، الذي تلقاه الكثير كشارع افتراضي يختبر فيه ما لم يستطع اختباره على أرض الواقع، كلٌ يجيء بجعبته ملأى بالفن، بالعبث، بالغضب، بالصراخ، بالغناء.

إننا نختبر أنفسنا للمرة الأولى كمجتمع إلكترونياً، نفاجئ أنفسنا بنماذج نتساءل كيف وصلت إلى هذه الدرجة من البؤس والسوء ونماذج أخرى تجعلنا نتساءل كذلك كيف وصلت إلى هذا المستوى من الأدب والإبداع، ومن الإتقان في فنونٍ لم تتلقاها في مدرسة أو معهد أو في رصيف!، الكثير من السعوديين يمارسون فنوناً لم تكن من ضمن الخيارات التي فتحوا أعينهم عليها في مؤسسات التعليم النظامي، ولم يمد لهم رصيفٌ يده كي يجربوها بأريحية؛ التصوير، التمثيل، .. المسرح …كتابة وصنع أفلام الانميشن..وتطول قائمة التجارب الارتجالية التي تتوالى في المواقع الالكترونية وفي اليوتيوب برغم أن ليس لها داعم أو راعٍ على أرض الواقع، انطلقت هذه النماذج إلكترونياً لتحظى بثقافة التجريب، نماذج مبهرة في الحوار وفي الفهم وفي الاحتواء بالرغم من أن معظمنا خريجو طرقاتٍ بلا أرصفة، ومنازل بأسوارٍ موصدة تعامل مع من هم خارج السور كغرباء وإن كانوا سكان منزلٍ مجاور، وبمقابل هذا كله ما زال فينا من يتعاطى والشارع الالكتروني بطريقة تقليدية وكأنه شارع واقعي، ما زال الكثير منا إلكترونيا يفترض أن كل من لا تعرفه لا يستحق تحية عابرة أو ابتسامةً ودودة، ويمارس نزقه في (تويتر) بأسلوبٍ بسيط بدائي لم تهذبه الأرصفة والساحات العامة.

sanaanaser@gmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة