Culture Magazine Thursday  23/02/2012 G Issue 364
فضاءات
الخميس 1 ,ربيع الآخر 1433   العدد  364
 
انْتفاضَةُ العصَافيرْ
ياسر حجازي

 

(1)

ويُنْسبُ إلى الشاعر حسّان بن ثابت في هجاء الحارث بن كعب:

“لا بأس بالقومِ مِنْ طُوْلٍ ومِنْ عَظْمِ

جِسْمُ البغالِ، وأحلامُ العصَافيرِ”

المدخل هنا: (أحلام العصافير)، كأنّ للبغال أحلام أرقى. أدابّة أحلامها بالكاد أعشاب؟ أمْ عصفور (حُرّ)، دوّخَ في هواه الصيّادين، أحلامه لا تنتهي فوق شجر أو أفق؛ بالله هل يستويان!

(2)

إنْ شئتُ تنقية لذهني من أغبرة الحياة، فإنّي ألوذ بقراءة المعاجم؛ وحين شرعت بكتابة (انتفاضة العصافير) تذكّرت العديد من المعاني المختلفة لهذه الكلمة الجميلة الإيقاع على قلبي (عُصْفُور)، فقلت أدوّنها ها هنا:

العصفور في اللغة: “السيّدُ، المِلْكُ، الأصلُ، قطعةٌ في الدماغ، الطائرُ”

إذّاك حضرَ معنى (العصفوريّة)؛ كأنّها من المعنى الدماغيّ. وحضرَ المثل الشامي (طيّر عصافير رأسي). هكذا؛ لا يكون عنوان المقال: (انتفاضة العصافير) انتقاصاً لهم: (فالعيال كبرت) (*)، والعصفورُ سيّدٌ و(صاحب دماغ)، وإن كان لدى العرب اليوم معاجم تاريخيّة لتطوّر الألفاظ العربيّة لحريّ أن نضيف معنى الثائر لكلمة عصفور.

(3)

الحريّة: هذه الكلمة السحريّة -العصفوريّة أيضاً- التي لأمر ما، على قدر حُبّنا لها، وحديثنا عنها، وحلمنا بها، إلاّ أنّنا لا نحسن التعامل معها. نجهل مفاهيمها، أخلاقها؛ وكلّ الظنّ لدى المحرومين: (أنّها حقٌّ من قولٍ وفعلٍ لمن يريد) وأيّ ظنّ هذا!

ولعلّ الذي تورّط بمتابعة تويتر، وتابعَ -من قبل- منتديات النتْ، لسوف تصدمه كميّة اللغة الفاسدة غير المؤهّلة في التخاطب والحوار بين المختلفين؛ وإذْ تستنكرُ.. يُعلّلون متاهات غلوّهم بالحريّة، تبّاً لهكذا مفهوم إذن؛ فالحريّة شريعةُ غابٍ إنْ لم تُقنّن وفق ضوابط المساواة والعدالة وفلسفة الحقّ والواجب؛ فلحريّة الفعل قوانينها، ولحريّة القول قوانينها ولحريّة المعتقدات حرماتها. وكلّ مطالبة بحريّةٍ لا ضوابط لها إنّما هي مطالبة تحمل في طيّاتها رغبة اعتداء بالآخرين وانتقاصاً لحقوقهم، لأنّ الحريّة المفتوحة هي اعتداء مفتوح.

من حقّك في الحريّة أن تتكلّم، من واجبك أن لا يحمل كلامك إساءة للآخرين.

من حقّك في الحريّة أن تكتب، من واجبك أن لا تتعدّى على أحدٍ.

من حقّك في الحريّة أن تمارس معتقدك، من واجبكَ عدم التعدّي على معتقدات الآخرين.

تلك بديهيّاتٌ من مفاهيم الحضارة اليوم، وذكرها هاهنا لن يؤخّر أو يقدّم ما لم يتمّ زرعها في برامج التعليم منذ الصغر.

(4)

ولكن، لا تغيير للأصلح دون ثقافة حُرّة؛ الحرّة التي لا تشرعن الاعتداء على معتقدات الآخرين، فثمّة فرق بين مناقشة الاعتقاد، وبين الاعتداء عليه، فالأوّل غايته جدل سلميّ وحوار، والثاني قرصنة واستبداد.

الثقافة الحرّة تتجرّد من شرَك نفسها أوّلاً، ميزتها قدرتها على الاستقبال كما قدرتها على الإرسال، أنّها مستقلّة ومبتعدة: عن السلطة، عن الاعتداء، عن الإقصاء، عن مصادرة حقّ الآخر في طرح رأيه؛ فلا تغيير دون ثقافة حرّة تفصح عن (ممكنها) -الذي هو أعلى من ممكن السلطة، وأكثر عقلانيّة من ممكن الجماهير- تمتحنه واقعاً، تفاوض السلطة على قبوله.

ولكن لا ثقافة حُرّة دون حُريّة. فالحريّة لسان المرء، والحريّة سلوك الحرّ، والحريّة قلب العدل. والحريّة روحُ القانون. والحريّة مسؤوليّة.

(5)

ما الذي تغيّر في الجماهير العربيّة حتّى انتفضت، تغيّر رؤوس أهرامها، ثمّ تسعى لتغير الواقع وفق (الممكن) الذي تظنّه وتحلم به.

كيف يمكن أن نفهم ما تريده الجماهير؟ ما هو ممكنها في ظلّ مستحيلاتها العديدة؟ ربما نعرف مستحيل الجماهير: مثاليّاتها، نهاية الظلم، العدالة المطلقة، محاكمة جميع المفسدين، تعويض جميع المتضرّرين، المساواة الكاملة، نهاية الفقر؛ كلّ ذلك نسمع به، ونحلم به أيضاً في اللحظات التي يمنحنا العقل متّسعا بسيطاً للشطحات، لكنّنا نعرف أنّها مستحيلات الإنسان؛ فهل تغيير الواقع ممكن أم مستحيل؟ وما علاقته بمعايير الوقت، التعليم، الحريّة؟

ما الذي على الجماهير فعله حتّى يتحوّل مستحيلها إلى ممكن؟ فالظنّ أنّ التغيير على المستوى السياسيّ أو الاقتصاديّ أيضاً يُفضي إلى تغيير الواقع ويطوّره هو ظنٌّ هشٌّ، ما لم يقترن ذلك بتغيير جذري لبرامج التعليم ووسائله وانفتاحه على الحضارة. إنّه من الجنون أن تدعو الناس للديمقراطيّة وهي لم تسمع بها إلاّ أنها رجسٌ أجنبيٌّ، أو تدعوهم للتعدّديّة وهي تجهلها تماماً.

واهمٌ من يظنّ أن الفساد في الطبقة السياسيّة العربيّة دون شعوبها، أو أنّ الأنويّة والإقصائيّة في مذهب أو تيّار دون آخر؛ فالقضاء على الطبقة المتعلّمة المتوسطة وإفساد التعليم أخلّ بالتوازن الطبقي المجتمعيّ وأينع فساداً وتطرّفاً في الشرائح جميعة.

(6)

مشاعيّة المعرفة، حُريّاتُ النت: مستحيل العالم الافتراضي زاد من سعة (ممكن الواقع-ممكن الجماهير)؛ فالإنسان العربيّ الذي يعيش في عالم حرّ (افتراضي) منذ عقد من السنوات؛ كبر ونشأ في غرفته وحيداً، بعيداً عن جدران الخوف، بعيداً عن أوهام الرقابة، بعيداً عن شهوة الكلام والجدل والمناظرات، لا يقرأ كتباً كاملةً، لا يكتب المطوّلات، يفهم المواضيع كيفما شاء له وقته بالمختصرات، بالإيجاز، باللمح، برسائل الموبايل، بتويتر، بالفيس بوك؛ سمّهِا ما شئت: ثقافة مبتورة، مجزوءة، ثقافة عصافير، جماهير، ثقافة ناقصة مطعون فيها، لكنّها صارت كيانا طاغياً أخلّت بمفاهيم الإعلام والصحافة.

لقد مارس هذا الجيل حرية كاملة على النت: تقنّع خلف أسماء وهميّة، صرّح باسمه في مرحلة عاقبة على استواء الحريّة في شخصيّته. قرأ عناوين ممنوعة ومحظورة من كتب تراثيّة، وأخرى سياسيّة، ودينيّة، نقاش المواضيع جميعة. أدمن الحريّة على طريقته، صارت عقله وقلبه، طريقة تفكيره، تماهى بين عالمين (افتراضيّ وواقعيّ)، وما عاد يهمّه الفصل بينهما، ولعلّ هذا التماهي حوّل العصافير إلى سلطة لم تعد تكتفي أن تكون سلطة رابعة، وراحت تتوسّع في تطلّعاتها، فالتماهي الذي برعت به المخابرات والإعلام الأمريكي بين الافتراض والواقع، غدا وسيلة طيّعة بيد العصافير/الجماهير أيضاً.

فهل هذا التماهي بين (الافتراضي والواقعي) بما تضمّن من مفاهيم مغايرة للحريّة، المشاركة، التأثير والضغط/السلطة، أسهم بالإطاحة بأربع ديكتاتوريّات، والخامسة تلفّت العالم أنّ ثمة مخاطر من هذا الجيل العربيّ أن يؤثّر على ساحاته أيضاً؟

(7)

أيختلف مفهوم الحريّة بين مثقّف الواقع اليآس، وبين مثقّف المشاع الافتراضي؟ هل الاستبداد إلى أفول؟ أمْ أنّ الحكاية دائرة، من مستبدّ إلى آخر!

فلا يمكن التسليم بأن ما يحدث في الميادين العربيّة هو طفرة طوريّة وثورة أخلاقيّة تجديديّة، سوف تقود البلاد العربيّة للدخول في المدنيّة والحضارة، وتخرجهم من التبعيّة المقيتة؛ وعدم التسليم لا يعني الطعن التام، إلاّ أنّ المعطيات والخلفيّات وماهيّة القيمة المعرفيّة للإنسان العربيّ وبرامجه التعليميّة وقنواته الإعلاميّة وثقافته الافتراضيّة والتماهي، لا تؤهّله للقيام بهذا الدور مباشرة، وهو الذي حُرم من التعليم الحرّ المستقلّ منذ نشأته، فكيف يمكن له أن يتحمّل أعباء نهضةٍ بين ربيع وخريف.

(8)

أيّتُها الحريّة لكِ أُرنِّمُ مع الجدِّ (أبي صخر الهُذلي):

وإنِّي لَتَعْرُوْنِي لِذِكْرَاكِ هزَّةٌ

كما انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ

(*) هكذا عنونت مجلة بلومبيرغ/العربيّة، عددها في شباط 2011.

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة