Culture Magazine Thursday  24/05/2012 G Issue 374
شعر
الخميس 3 ,رجب 1433   العدد  374
 
مُرافِق
حسن محمد حسن الزهراني

 

هذه الرهبة الجاثمة:

فرشت ظلها في زوايا المكان..

خضّبت بالتجنّي مرايا الزمان..

كَسِبت ضدّ قلبي

وصبري

وحرفي الرّهان..

سكبت وجهها في عروق الأمان..

وأبي:

ها هنا (عُشرُ) جسمٍ مُسَّجىً

ومليار روحْ..

وأبي:

ها هنا عشر جسم مسجىً

ومليار نورٍ وطهرٍ

ومن بين جنبيه

عطر المثاني يفوح..

دِفء كفيّه حبرٌ كتبتُ به

أول الفجر: أنشودة من حنانٍ

وعلقتها في جدار الشغاف..

ضبحُ رجليه في مسمعي

منذ خمسين عام

تجوب المفازات من أجلنا

وهي الآن (بالكاد) يهتزّ منها اللّحاف..

يغمض الآن عينيه

يقرأ سورة ((ق))..

وفي سورة الملك يفتح عينيه

كي تبدآن على مقلتي الطواف..

هذه الرهبة الجاثمة

صَلَبت دمعتي

في الجهاز الذي فوق رأس أبي

من أوائل فصل الخريف..

تاه صبري هنا

بين هذا الأنين المسطر في سقف

هذا الممر المخيف..

بين هذا النحيب الذي تحتويه الأسرة

من بعد منتصف الليل من كل طيف..

بين وجه أبي

ناصعا بضياء اليقين

ووجه مُغذّية

شنقتها ممرضةٌ تقطع الليل سعياً

هنا وهنا وهناك

وعن موعد الضغط والسكري لا تحيف..

الثواني مسمّرةٌ في غصون الجراح

التي بشرتها خطى الليل حيناً

بموت الصباح…

صمت الدمع في سفح صبري

على مهبط الحزن عن الخلجات

لبكاء المباح…

أوقفت لغة النوح

من منتهى اليتم في ريبةٍ

خلف شباك غرفتنا

في ضحى القلق المنتشي

في رحاب التوجّس

سِرب الرياح…

الأطباء يأتون في العاشرة

بعدها بقليل

قبلها بقليل

ويقولون ما يفعلون..

يقرؤون يكتبون

يأمرون وينهون

وعن خلق جّو ٍمن الرعب

لا ينتهون..

الطنين الذي وخز الروح

في هدأة العين قبل الظهيرة

قد أطلقته مغذيةً سُدّ شريانها

حين حركت كف أبي كي يصلي

على أول الوقت ظهراً وعصرا

جمعاً وقصرا

فيومئ دون ركوعٍ ودون سجودٍ

ودون قيام…

ويلقي على الداء حين يرى عجزهُ

عن أداء الصلاة كما ينبغي

زفرات الملام…

أرى البحر من خلف شباك غرفتنا

دون لون

وصمتٌ توشّح شطآنه الساكنة …

وكم كنت أشدو لروعته ما يثير الشجون

على سحر أمواجه الفاتنة …

أرى الشمس كحلية اللون

أضواؤها داكنة…

أعود بطرفي سريعاً

إلى زفرةٍ من أبي

وإيماءةٍ نحو قنينة الماء

من كفه الواهنة…

وعند المغيب

تراودني رهبة الليل

أذكر أني سأقضيه

بين وقوفٍ طويل

أمام سرير أبي

وركضٍ إلى ركن مقصورة

خلفها من بنات (الفلبين)

(سبعٌ) وهندية ثامنة.

وأجلس حينا من الوقت

في المعقد الخشبيّ

الذي لا شريك له في المكان

يخاتل عيني النُعاس اللذيذ

الذي جاء في لحظةٍ آمنة…

وأصحو على فزع ٍ فأرى والدي

لم يزل تحت تأثير (كبسولة) النوم

بعد الصراع الطويل

مع الوجع المرّ

والوجفة الكامنة…

أجول بطرفي سريعاً هنا

في زوايا المكان

يعود حسيراً

تكبله اللحظة الراكدة…

وأقصى المنى

أن أنام على الأرض مستلقياً

دون فراش ودون لحاف

ولو ساعة واحدة….

تنهدّتٌ

لما تنهد شيخٌ وراء الستارة

كان يقاسمنا الآه في الغرفة الضيقة

وكم كان يهذي فأضحك مما يقول

وأندم أندم

تسقط من دمعتي

دمعة صاعدة….

وأخرج حينا من الوقت

أسمع ضوضاء

أسمع صوت بكاء..

أشمَّ هنا من مسام المواجع

ريح الفناء….

لقد مات الشيخ

قضى منذ عامين عمراً

بئيسا يعاني أمر العناء….

وجدت ابنه عند أقدامه

يجلس القرفصاء….

يبكي أحرّ البكاء…

فقدمت بعض دموعي

على طبق صامت من عزاء…

وقلت لنفسي

هنا عظةٌ جمة ٌ

للذي دبّ في نفسه

نزق الكبرياء

لمن بات في غفلة عن مصيرٍ كهذا

لمن لم يرَ (بعد أقدامه)

أو تعالى ببطشٍ وظلمٍ

لمن عُلقت روحة بالحياة

ليعلم أن الحياة هباء..

أن الحياة هباء

أن الحياة هباء..

وعدت سريعاً

بنصف اصطباري

وأضعاف ناري

وزهدي.... وما بتُّ أرغب

في ساعة للبقاء..

وجدت أبي صامتاً

والمسنّ الذي في الجوار ينادي

أريد هواءً أريد هواءً

أريد هواء….

أريد ولو حفنة من ضياء

مللت البقاء هنا أخرجوني

أعيش قليلاً فقدمت قبل الممات كثيراً

رجاءً رجاءً: إذا كان لي عندكم من بقايا رجاء...

نظام الأطباء يا سادتي لا يرد القضاء

إذا لم تكن رحمة من إله السماء

فلن يكشف الضر هذا الدواء

ولن يجبر الكسر هذا الهراء

فمنوا علي بائسٍ في قيود الشقاء

بلحظة أنس ٍ يرى ضوء شمس الضحى

سابحاً في الفضاء..

ويصمت حينا ولا من مجيب

فيجهش من بؤسه بالبكاء..

فأبكي

ويبكي أبي

والستائر

والسقف

والصمت يبكي

ويبكي البكاء....


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة