Culture Magazine Thursday  26/04/2012 G Issue 371
أوراق
الخميس 5 ,جمادى الآخر 1433   العدد  371
 
وتم العناق
أرى نسوة يسقين الجثث
حسن البطران

 

« أرى نسوة يسقين الجثث « عنوان لديوان شعري من فصيلة القصيدة النثرية للشاعر صالح الحربي، يضم بين دفتيه 133 صفحة من القطع المتوسطة وبها مجموعة من النصوص النثرية، التي كتبها في المغرب وفرنسا ومصر وليبيا والأردن ودول الخليج وبريطانيا ودول شرق آسيا وتركيا بين عامي 1996 ـ 2000م، وكأنه يشير إلى أن قريحته الشعرية لا تتفجر إلا خارج الأسوار.. قرأتُ بعض النصوص النثرية والتي تُعرف بالقصيدة النثرية لأكثر من شاعر، وبذائقتي وجدت أنها نصوص تحمل عمقاً إبداعياً جميلاً بلغتها ومفرداتها، كونها نوعا من الكتابة الحرة والمفتوحة.. فهي نصوص شعرية نثرية بها شاعرية وشعرية، وإيقاعاً داخلياً، وأنا أميل إليها وأتذوقها كونها تتمرد على القوانين والقواعد الكلاسيكية الخاصة في كتابة القصيدة التقليدية، أو قصيدة التفعيلة.. الرمز والفنتازيا والتكثيف والقطع المضغوطة، والمفارقة التصويرية أهم ما تتميز بها، وقد تكون أكثر شاعرية من الشعر التقليدي صاحب الموسيقى، حيث هنالك من القصائد الجميلة من غير أبيات شعرية، وفي المقابل تقرأ أبيات شعرية تخلو من الشعر..! وخلاصةً أن قصيدة النثر تستمد قوتها من الحداثة والعصرنة، والعمق الثقافي للشاعر، إن كاتب القصيدة النثرية يجب أن يكون متمرداً وفنتازياً، ليظهر لنا تكنيكاً جديداً يقنعنا به، وربما (أرى نسوة يسقين الجثث ) ينطوي فيه أو يقترب مما تتوخاه القصيدة النثرية المتمردة.

ومن خلال قراءاتي في نصوصه تبين أن الشاعر الحربي مخلص في علاقاته وصداقاته، وإخلاصه مع الطرف الآخر، وتمكنه في كتابته النثرية، فمعظم قصائده فيها إثارة وفنتازيا وأبعاد أخرى، وقد كتب جلها في شاعرات وكاتبات وأديبات، بل كلها، وإن شذا ما كان تحت عنوان: أصدقاء / شعراء، حيث توقفت قليلاً، أتأمل وأزاحم تفكيري، وأتساءل: لم في هؤلاء الشعراء الثلاثة كتب فقط دون غيرهم..؟ ربما ثمة علاقة حميمية، وإن كانت في عدد كلمات قليلة جداً لا يتجاوز الـ 35 كلمة منثورة في مساحة ثلاث صفحات، بالرغم أن الديوان كله لشاعرات ومبدعات وصديقات للشاعر، وبمعنى آخر أن الديوان كله لنون النسوة.. ! ولعل العنوان يدل على ذلك، ويعطي مؤشراً كبيراً لما يحتويه.

وقد ضمن الشاعر ديوانه ببعض العبارات والنصوص الواسعة المعنى لأسماء كبار من الكتاب والشعراء العالميين كمقدمات ومداخل قبل كل نص أعطت خلطاً إبداعياً رائعاً..

نعم صالح الحربي « يستفزنا بكثرة نسائه « كما قالت سارة الختلان على الغلاف الخلفي للديوان ،فحتى الإهداء كان إلى مجموعة من الأسماء المفردة، والتي أراد أن يخفي هويتها عنا: زهرة الغاردينيا.. هـ.. أ / ناهد.. / رحاب.. /.. مريم.. ، وأضاف في صفحة أخرى إهداء إلى جدته حصة السبيعي، وفي ثالثة إلى والده أحمد بن سعود، لكن الإهداء الأساس للأسماء الناعمة..!

استهل الحربي ديوانه بالقصيدة التي عنون بها الديوان، وأخذت مكاناً واسعاً من مساحة الديوان، حيث من صفحة 13 - 26 وهي مهداة إلى صديقته الشاعرة المغربية وفاء العمراني :

(في المساءات

الممتلئة بردٌ قارسٌ

وثلج أبيض

كبياض الياسمين

***

أرى نسوة حفاة

يتجهن

نحو القبور

ينبشن قبري

بأظافرهن المتسخة

تبكي إحداهن

أرى قبري

قد غطاه

الثلج الأبيض

ويستمر في نثر كلماته في هذه القصيدة حتى يقول :

... يُنادي

في المدينة

من سرق

جثث

بابلو نيرودا

فلاديمير ماياكو فسكي

جون كيتس

والتوي تمان

رينرمايا رلكه

الكسندر بوشكين

من الجبانة ).

وكل قصيدة في الديوان مهداة إلى صديقة له؛ من كل البلاد العربية من الخليج إلى المحيط..

لغة الحربي بسيطة ولكنها تتعدى أنها جميلة، فيها كثير من الرمز المعمق، فهو يختار مفرداته بعناية، تتناسب والرسالة التي يريد إيصالها.. في كثير من نصوص « أرى نسوة يسقين الجثث « صوراً تقترب من اللغة السريالية والتجريدية، كما في مدارس الفن التشكيلي، وليس ذلك مستغرباً، كون الحربي فناناً تشكيلياً حسب سيرته المرفقة.. حاول الحربي أن يستغني عن الفرشاة والريشة فلم يستطع، وأستبدلها بالمحبرة والقلم.. الحربي في ديوانه هذا صنع لنا تناقضات، ربما تشكل لوحات تشكيلية ملونة بفرشاة ألوان قوس قزح، وأخرى داكنة، بدرجات متفاوتة..!

المبدع الحربي له القدرة في تحويل النص الشعري عنده وتصويره إلى مشاهد قصصية سوداوية:

(رسم

سيفاً

ثم

ضرب به

عنقه)

أو قصص وكأنها تحكي واقعاً، وتعكس مشاهد واقعية وأظنها كذلك ؛ وهنا وكأن صالحاً يكتب قصة قصيرة جداً، يقول:

(رسم

قصراً

وأسكن

عائلته

ثم

أمطر

العتبات بالدموع)

كثيراً ما يتخفى صالح خلف نصوصه النثرية، وخلف لوحاته التش كيلية التي يجسدها إبداعاً ونثراً، ولكنه كثيراً ما يظهر فجأة.. ونرى التناقض والفنتازيا سمة في إبداعاته.. !

من يعرف الشاعر صالح الحربي عن قرب يدرك أن ديوانه قطعة منه، أو هو قطع متجمعة من ديوانه، لا فرق.. يكون صالح جميلاً في مواقع كثيرة من ديوانه، يقول وهو دوماً كذلك:

(السماء

جسد فتاة منتصبة

والأرض..

وجه عجوز..

أنهكته التجاعيد

والريح..

طفلٌ يئنُ..

على قارعة الطريق

وأنا ومريم

شمس وقمرٌ

تربعا على

عرس السماء )

تمنيت لو كان بعيداً عن الأرض، وبقي في السماء هو ومريم.. وقد أتساءل يا صالح: لم أمطرت وجه رحاب بالقبلات، ثم بصقت على وجه مريم والتي سبق وإن كنت معها في عرس السماء ؛ شمس وقمر ليس مرة واحدة بل ألف مرة ومرة..؟!

(رسم

وجه

رحاب

ثم

أمطره

بالقبلات)

و: (رسم

وجه

مريم

ثم

بصق

عليه

ألف مرة ومرة ).

وأُعيد تساؤلي مرة أخرى لك يا صالح: لم بصقت على وجه مريم وعطرها يتناثر في كل مكان..؟؟!!

(مريم خرجت

من رحم

الوردة

فتناثر عطر مريم

في..

كل مكان ).

ولما رسم وجه ناهد بكى وسقط مغشياً عليه، ورأى وجه هيفاء هلالاً، بل بدراً وقمراً، حتى أنه جُن لهيفاء.. رائع يا صالح في ديوانك النثري هذا، وكأن صورة تلقائية لك وأنت فيها.

رسم صالح أربعة وجوه في ديوانه وأشياء أخرى، ولا غرابة أن يرسم، فهو فنان تشكيلي ،ولابد أن يكون مسحوراً بفنه، ولكن لم التناقض والاختلاف في هذه الوجوه، وخاصة في وجه مريم الذي بصقت عليه ليس مرة واحدة بل ألف مرة ومرة.. ؟! ربما ( مريم ) في « أرى نسوة يسقين الجثث ) فتاة تشكل شخصية مثيرة وتحمل من القيم والرذيلة ما جعل الشاعر يتناقض في نظراته إليها إلى درجة أن يبصق عليها.. !!

عنوان الديوان يحمل عدة مضامين ودلالات مما جعل الحربي يستفزنا به ( أرى نسوة يسقين الجثث ) عموماً العنوان يعطي إيحاءات كثيرة ومتناقضة إلى درجة تتوغل في الرمز والتجريدية.. فهل الجثث تسقى.. ؟!

وختم الشاعر ديوانه بنص للشاعر الروسي الكسندر بوشكين تحت عنوة « خاتمة « :

(لكن في يوم أسى.. في غمرات السكينة..

حيث تعمُ الكآبة في الأرض..

قل: ثمة ذاكرةٌ ليلا تنتهي..

و ثمة قلبٌ حيث سأحيا به)، كما وقد أفتتحه بنص للشاعر نفسه.

بحق، الشاعر صالح الحربي أقحم نفسه بين شعراء القصيدة النثرية، وأنه وجد مكاناً بينهم و « أرى نسوة يسقين الجثث « عصاه وسلاحه، وهو عندهم ومعهم..!! وتبقى القصيدة النثرية جنس أدبي أثبت وجوده وتمرده في الأوساط الأدبية والإبداعية، والذي يراهن بحجة الحداثة والعصرنة، وشاعرنا الحربي يسعى لأن يكون فارساً فيه..!!

Albatran151@gmail.com الاحساء

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة