Culture Magazine Thursday  26/04/2012 G Issue 371
فضاءات
الخميس 5 ,جمادى الآخر 1433   العدد  371
 
درس في جماليات الموت - الحلقة الرابعة
تفاحة نيوتن تسقط في قبر
محمد عبدالله الهويمل

 

أتساءل أحيانا لماذا تأمل نيوتن التفاحة عندما تسقط على رأسه؟ هل الجمال المتعدد في مكون التفاحة سبب؟ ولرصد العلة علينا أن نتصور المشهد بدراميته المرحلية التالية... عالم مستغرق في التأمل تحت شجرة... تسقط على رأسه تفاحة، ولم تسقط على عضو آخر، لتكون الدهشة أصدق، أي على الرأس، مستودع العقل والمخ ومركز تحديد الدهشة، ويرفع رأسه إلى الأعلى مراوحا النظر في التفاحة ومصدر سقوطها في شفافية يعدها العالم بحثا عن السببية ويعدها الجاهل ضرباً من البلاهة. ينهض بعدها نيوتن إلى معمله مرسلا أسئلة حائرة، لا سيما أن التفاحة سقطت بفعل هواء مندفع، بفعل الطبيعة الجميلة وحدها، لم يفتعلها مشاغبة طفل أو قرد. ثم إن السقوط اختار رأسا دون جسد وجسدا دون سائر المكان الممتد في ذلك المشهد.

إن مشهد سقوط التفاحة قدر جمالي, ساهم في جماليته تفاحة وشجرة وهواء وأرض (مستقر الجاذبية). إنها كثافة من الجماليات الطبيعية، فعلت فعلها تجاه عنصر خارج مكونها الفيزيائي وهو الإنسان. ولربما كان هذا السقوط وعلى رأسه (أشرف أعضاء الجسم) شكلا من الاعتداء، وهو الذي تعود أن يكون معتديا على الطبيعة بأكثر أدواته عنفا، وها هي تعتدي عليه بأرق أدواتها.

إنها كثافة بين الجماليات أوقعت ألما على رأس، فكان الألم والمفاجأة والسقوط من أعلى والاستقرار على الأرض وربما داخلها، لو صادفت فجوة غائرة. وكل هذه المتتابعات استدعت أسئلة جمالية قلقة, تعامل معها الإنسان بلذة قلقة انتهت إلى إبداع قانون الجاذبية الذي قاد الجمال إقراره، وأحاطه بأسئلة وإجابات تنتهي إلى الحسم أو الحتمية التي نسميها علميا بالمسلمة.

إن سقوط الجسد في التراب يكرس لنمطية نمارسها وفق قانون صارم ذي صلة بدينامية الحياة والنهاية. وأكثرنا لا يعي أن من الروحانية استشعار أن الإنسان ترابي, وعودته للتراب شكل من تحقيق الانسجام الطبيعي مع سكونه الأول, والدليل التحلل وذوبان هذا الجسد في مادته الأصلية كشكل من التفاعل السهل مع محيطه الجديد، كما على النحو الجمالي ذاته مع محيطه الطبيعي قبل موته وهذا ما قد يقلل من الخوف المرضي من لدن الإنسان تجاه الفجوة الترابية.

التراب عنصر طبيعي يتعامل مع الإنسان بعفوية وحميمية، بل ويحتاجه في بعض ضرورياته كالبناء ما يلهمه طمأنينة تؤكد حالة (العادة) التي هي مناط اللذة أللا واعية وكل ما سلف يتجه إلى التأكيد على أن جمالية الموت حاضرة في شعور أي إنسان، لا سيما المسلم للآلية السلمية للدفن، لا كما تمارس ديانات أخرى.

التراب ثبت على مدى عمر الإنسان بوصفه طرفا مسالما في علاقته بالإنسان، وقد يوحي بالعدمية لفرط مسالمته. وتلتحق هذه العدمية الغافلة بالإنسان إلى الآخرة بعد أن يرى الهول، وربما العذاب فيرجو عندها أن يكون ترابا كما يؤكد القرآن الكريم. والذي جأر بهذه الأمنية ليس إنسانا معينا، بل جنس الإنسان الذي يواجه هكذا كرب ما يشي بأن الوعي الجمعي للبشر يلح على هذه المادة الطبيعية، ومدى مسالمتها للإنسان ولله نفسه، إذ التراب لا يعذب، ولذا يتمنى الإنسان أن يكون ترابا ما يبرهن من جديد على أنه عنصر إيجابي في جوانبه المعنوية, واختيار الله له كحاضن للجسد جزء من الطمأنينة الجمالية التي تؤكدها قوانين أن (الدنيا حلوة خضرة).

من يستشعر حالة الإسقاط في القبر، ومدى تشابه الجسد بالتفاحة في كونهما غير عاقلين، وسقوطهما بمؤثر خارج الإرادة ينتهي إلى أن التفكير وإصدار قانون عن هذا السقوط يحتاج إلى نشاط جمالي معه يعبر خلال قانون يسفر عن اكتشاف حالة جمالية مبطنة, دستها العادة في غفلتها، وأبرزها حس لا يكتفي بالدهشة دون التفتيش في مضموناتها.

المسلمون يعمدون إلى وضع الميت على جنبه لا على ظهره كصورة تخالف المألوف في طقوس جنائزية أخرى. ويعكس لحد الميت صورة فوتوغرافية عن متعة وطمأنينة النائم الذي ينام على أوضاع ثلاثة مستلقيا، أو مكبا أو على جنبه، (والجنب أكثرها تموضعا للنائم). فالتقلب ذات اليمين والشمال فهي حاله عارضة وليست أصل مطمئنا في وضعية الجسم في النوم، وعند اللحد يكون مصروفا إلى جهة ذات دلالة لإعطاء الميت وضعية استجابة تجاه متطلب بل واجب ذي صلة بالحالة الدنيوية، وأن جسده ستتحكم به مؤثرات مرتبطة بالجهة الدنيوية. وكل هذه الإشارات تخلف أثرا إيجابياً على المباشرين لعملية الدفن قائلين (اسألوا له الثبات فإنه الآن يسأل)، ما يطمئن ذويه بأنه ما زال قادرا على تفعيل الحواس، إذ هو يسمع سؤالا ويحرك جارحة النطق بالجواب ما يعطي انطباعا عفويا بأنه متصل بعالمه الدنيوي. وهذا يخفف بشكل تدريجي من وقع فاجعة الفراق داخل طمأنينة عززت من الجماليات الخاصة للموت دفنا ولحدا ودعاء.

البساطة في طقوس الجنازة تمنح الموت بعداً جماليا خاصا يجعل الموت قدراً يؤكد حالة الهدوء الرخي للبشر, وليس وحشا يبتلع الميت ومشيعيه ويرعب البعيدين. وحمل الميت على الأكتاف وليس سوقه في عربه مثلا حاله من تفاهم ودي مع إنجازات الموت، ومنح قيمة لدلالاته الروحية. وحمل الميت على الأكتاف هو حالة من إلصاق غير مباشر بأجساد الأحياء كدلالة على تلقائية علاقة الحي بالموت, وليس الميت فقط ما مكن لعلاقة جمالية حميمية لا للوحشية مكان فيها. ويتصل هذا أيضا بالتعامل العاطفي مع الميت الذي يحتوي في جسده أثرا واضحا لنشاط الموت في المكان، إذ الجثة بقعه من الموت أو ما يمكننا أن نحدده عن حضور الموت وبقائه ومفعوله في المادة المتحركة الحية. ورغم تهيبنا من الموت إلا أننا نتجاوز كل هذا المشاعر إلى التعبير عن الحزن الذي لا يمت بصلة للخوف في هذا المقام. هذه الهيبة لم تمنع أحدنا من لمس الميت وتقبيله واحتضانه وتغسيله الذي يباشر كل خلية من خلايا الجلد، بل ومكوثنا الطويل أمام هذا الجسد الذي أقام علاقة مع الموت استحضرت الموت وقوته وملكه ونزع الروح وكل التبعات التي يحمل كلنا انطباعا قلقا بل مرعبا عنها، ولكن كلها تزول بقوة الحزن الذي يعد طاقة شعورية سلمية تفرض حضورها وهيمنتها على المكان، حتى لا يبقى لأي طاقة نفسية أخرى حيز ما تعطي معنى وتأويلا عميقا جديدا للقدر الإنساني, فالحزن على فوات فرصة مثلا أقوى من فوات الفرصة, وكذلك الفقد والموت ويدخل الحزن كمعبر جمالي عند تفاعل الإنسان مع فعاليات الموت, حيث المفاجأة ثم الحزن هما التفاعلان الوحيدان لتلقي خبر الموت. والحزن حالة من الطمأنينة التي يصنفها الإنسان بالسلبية إلا أن حضورها في مشهد الموت يقدم خدمة إيجابية بتكثيف درجة الطمأنينة إزاء الموت الذي لا ينطوي في الوعي العامي إلا على ما يضاد الطمأنينة من القتل وخطف الروح وإزهاق النفس، أي بانوراما من العنف، ليخلق الله الحزن المرعب من مهدئات واستسلام لذيذ تصاحبه

أذكار التسليم للقدر، وهنا تكمن جمالية جديدة خلقها الله في مشهد الموت.

HM32@HOTMAIL.COM الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة