Culture Magazine Thursday  27/09/2012 G Issue 381
فضاءات
الخميس 11 ,ذو القعدة 1433   العدد  381
 
جامعة الإمام وجامعة الملك سعود
ممارسة الإقصاء من داخل المؤسسة الأكاديمية (2 - 3)
خالد بن أحمد الرفاعي

 

-4-

كانت مرحلة التوحيد المعنوي التي خاض غمارَها الملكُ المؤسِّسُ بعد اكتمال مراحل التوحيد المادي تتطلّب إنشاءَ مؤسسات علمية عالية، تتبنى رؤية الكيان الجديد، وتسعى إلى نشرها، والمحافظة عليها؛ لذلك وجه اهتمامه رحمه الله إلى بناء مؤسّسات علمية، تُعنى بالشريعة الإسلامية، وبما يمكن أن يُنمى إلى (الأصالة) في المجمل؛ فكان أمره أولاً بإنشاء كلية الشريعة في مكة المكرّمة عام 1369هـ، ثمّ أمره بإنشاء سلسلة من المعاهد العلمية، افتتحها بإنشاء معهد الرياض العلمي عام1370هـ، ثم أمره بإنشاء كلية الشريعة في الرياض عام 1373هـ، فتبعتها بعد عام واحد كلية اللغة العربية؛ لتشكِّلَ الكليتان معاً بالإضافة إلى المعاهد النواةَ الأولى لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، التي صدرت الموافقة على نظامها من مجلس الوزراء عام 1394هـ.

أُنشِئت جامعة الإمام؛ لتنهض بمسؤوليات تلك المرحلة، وأهمّها مسؤولية الحفاظ على السلفية التي قام عليها هذا الكيان، وعلى الأساس الشرعي العامّ، الذي يجعله منطلقا لأحكامه ومعاداً، ثم المحافظة فيما بعد على كل ما يمكن أن يندرجَ تحت مصطلح (الأصالة)، أو مصطلح (المحافظة) أخذاً في الاعتبار ما يثيره المصطلحان من إشكالات وملابسات.

وحين استعدت الدولة لدخول مرحلة التأسيس؛ ولدت فكرة إنشاء جامعة كبيرة، تنهض بمسؤوليات المرحلة الجديدة وهمومها، فكان الأمر الملكي بإنشاء جامعة الملك سعود في عام 1377هـ؛ لتقوم بدورها في توسيع الدراسات العلمية والأدبية، والانفتاح على العلوم الحديثة كالكيمياء والرياضيات والفلك، هذا بالإضافة إلى فتح الباب لتعلّم اللغات الأجنبية.

-5-

يبدو واضحاً من العرض السابق أن كلّ جامعة ولدت استجابة لمتطلبات مرحلة خاصة؛ لذلك كانت لها وظيفة خاصة، عبّرت عنها ابتداءً الخطابات الرسمية، أو ما اندرج تحتها من أنظمة وتنظيمات، ففي المادة الأولى من نظام جامعة الإمام نجد الإشارة إلى أنّ من أبرز أهداف الجامعة «توفيرَ أسباب التعليم الجامعي والعالي في العلوم الإسلامية والعربية والعلوم الأخرى، وإعدادَ العلماء والقضاة والدعاة، والعنايةَ بالبحوث الإسلامية والقيامَ بترجمتها ونشرها، والإسهامَ في تلبية حاجات البلاد الإسلامية وعلوم اللغة العربية، واتخاذَ الوسائل الملائمة لنشر الدعوة الإسلامية».

وفي الأمر الملكي القاضي بتأسيس جامعة الملك سعود نجد الإشارة إلى حرص الدولة على «نشر المعارف، وترقيتها...، وتوسيع الدراسة العلمية والأدبية، ومسايرة الأمم في العلوم والفنون».

إنّ مجرد صدور الأمر بإنشاء الجامعتين من مقام واحد (المقام السامي)، يعطي إشارة أولية على المعنى التكاملي؛ فكيف إذا أضفنا إلى هذا المعطى معطى الصياغة المعبّر عن الاختلاف في المنطلق، وفي الوظيفة أيضاً؟!

كان هذا الاختلاف واضحاً في ذهنية صانع القرار، وواضحاً لدى من عاصروا عملية الإنشاء أيضاً؛ ولم يكن هناك ما يدلّ على الشعور بالضدية بين الجامعتين لدى الجيل الذي واكب بداياتهما، ويكفي دليلا على ذلك حضور رؤية كلّ جامعة في إستراتيجية الجامعة الأخرى، ففي جامعة الإمام نجد الإشارة المباشرة والضمنية إلى ضرورة الانفتاح، وفي جامعة الملك سعود نجد الإشارة الصريحة إلى «إحياء الحضارة الإسلامية، والإبانة عن محاسنها ومفاخرها، وتربية النشء تربية صالحة، تكفل لهم العقل السليم والخلق القويم».

وليس هذا فحسب، فهناك تبادل مباشر للخبرات على المستوى الإداري بين الجامعتين، ففي الوقت الذي كان يطلّ فيه الشيخ حسن آل الشيخ (خريج كلية الشريعة بمكة المكرّمة) على جامعة الملك سعود بصفته وزيراً للمعارف ونائبا لرئيس المجلس الأعلى للجامعات، كان د.عبدالعزيز بن عبدالله الفدا، مدير جامعة الملك سعود (كانت تسمى جامعة الرياض آنذاك) عضواً في المجلس الأعلى لجامعة الإمام، وبمعيته مدير جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وقد استمرت عضويتهما في المجلس إلى حين صدور الأنظمة باستبدال مجلس التعليم العالي بالمجالس العليا للجامعات (عام 1414هـ).

وعلى امتداد الزمن كانت الجامعتان تتبادلان الكفايات، ففي جامعة الإمام تخرّج الغذامي، والمانع، والهدلق، والسماعيل، وآخرون، وأخذوا طريقهم إلى كلية الآداب بجامعة الملك سعود، وفي كلية الآداب تخرج آخرون وأخذوا طريقهم إلى كلية اللغة العربية بجامعة الإمام، وثمة جسور بين الجامعتين يعبرها المتعاقدون من السعوديين وغيرهم ذهاباً وإيابا، دون أن يشعروا باختلاف يصل إلى الحدّ الذي يصوّره كثيرون.

فروع الجامعتين أيضاً اندمجت بشكل تلقائي بعد الطفرة التي شهدها قطاع التعليم العالي دون أن يظهر على السطح ما يشي بالضدية، أو عدم الانسجام، ففي منطقة القصيم اندمج فرع جامعة الإمام وفرع جامعة الملك سعود وشكّلا معاً جامعة القصيم، والصورة نفسها ظهرت في منطقة عسير، فأفضت بهدوء إلى جامعة الملك خالد.

مما سبق يتبين أنّ لكل جامعة مساقا خاصا، تؤدي من خلاله وظيفة خاصة، ويمكن أنْ نتمثلَ هذه الوظيفة بإيجاز شديد في أنّ جامعة الملك سعود أنشئت؛ لتقوم بدور الاستيراد المعرفي، في حين أنشئت جامعة الإمام؛ لتقوم بدور التصدير الثقافي (السلفية/ دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب)، ولضمان شرط التكاملية، وللحيلولة دون وقوع أي انحراف من الجامعتين يفضي بهما إلى حالة من التضادّ، أنشئت بينهما أرضية مشتركة، تجعل جامعة الملك سعود محتفظة بشرط الأصالة حتى وهي تذهب بعيدا في استيراد المعرفة، وتدفع بجامعة الإمام إلى الانفتاح حتى وهي تذهب بعيدا في المحافظة.

-6-

إلى هنا كانت العلاقة بين الجامعتين تكاملية، ولم تظهر المشكلة على السطح إلا حين تسلّل إلى الجامعتين من لم يفهموا حقيقتهما، ولا موقعهما من خريطة التنمية التي مرّت وما زالت تمرّ بها بلادنا، أو لم يكونوا على قدر من الوعي، يضمن لهم الجمع بين المختلفين (الأصالة والمعاصرة)، أو (المحافظة والانفتاح)، لذلك جدت كلّ فئة في سبيل إقصاء الفئة الأخرى، معتبرة الرؤية التي تحملها مركزاً للكون، وطريقاً وحيداً للتوازن والاستقرار، فكان الإقصاء من داخل المؤسسة الأكاديمية نافذا في سياقات المناهج والمنهجيات والمقرّرات، وفي تقويم الطلاب والطالبات أيضاً كما سيتضح.

ولأنّ الحروب تراهن على المكاسبية، وتُحِلُّ الحدودَ الفاصلة محلّ المُلْكِ المُشَاع، فقد اختصرت فئةٌ جامعةَ الإمام في رؤيتها الضيّقة، وجعلت من حضور صفتها (الإسلامية) ضديداً لغيابها في جامعة الملك سعود؛ وفي المقابل اختصرت فئة أخرى تاريخ جامعة الملك سعود ومنجزها في رؤيتها المنفلتة، وجعلوا من انفتاحها على العلوم والفنون واللغات ضداً لغيابه في جامعة الإمام، وفي الحالين غاب اسم جامعة الإمام، واسم جامعة الملك سعود، وحلت محلهما أوصاف ملفّعة بالضياع: علمانية، وحداثة، وانحراف، تقابلها: رجعية، وظلامية، وانغلاق، وإرهاب...

لم يكن هناك شيء من ذلك، وإنما كان العمى، بعد أن أفضى إليه طغيان الذات ونكران الآخر، والرغبة في إقصاء المختلف حتى لو كان فرعاً منسلاً من يمينٍ أو شمال، تماماً كما هي الأزمة المفتعلة، التي وقعت بين جامعتي القاهرة والأزهر؛ فاحتاج معها ناقد كبير بحجم (طه حسين) إلى سنوات؛ ليكتشف أنه لم يكن يصف واقعَ الأزهر بقدر ما كان يصف موقفه منه!

                                                                                                         (يتبع)

@alrafai

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة