Culture Magazine Thursday  27/12/2012 G Issue 391
فضاءات
الخميس 14 ,صفر 1434   العدد  391
 
رؤية
بين الهطبلة والسبهللة.. والغثاثة
فالح العجمي

 

في إحدى مرّات إبداع الزميل الدكتور محمد العبد اللطيف على تويتر كان قد أورد مصطلح الهطبلة للدلالة على استخدام بعض الناس كلمات ليس لها معنى تقريباً (عند أولئك الناس المستخدمين لتلك الكلمات)، وقال بأنها تعني: الدوران في مساحة لغوية ذهنية لا ارتباط لها بالواقع.. وقد أتى بأمثلة على تلك الكلمات، منها: الخطاب - الحوار - العالمية.

ومع أني لا أريد مزيداً من الإحباط لزميلي، لكن إضافة العديد من المصطلحات في كل حقل ومجال عمل وبيئة تداول لا تزال ممكنة.. بل إن بعضها زاد عن الهطبلة، ليدخل في مجال الغثاثة، ونذكر من تلك المفردات في الكتابات الثقافية: المشهد - الحراك - التمظهر - التموقع - عارٍ أو عارية عن الصحة... إلخ.

فهل يتعلق الأمر بتجديد في المعجم العربي، أم بعجز من المفردات المتداولة عن الوفاء بمتطلبات التعبير، أو عن نقل الأفكار المترجمة عن لغات أخرى، أو المستجدة في شؤون حياتنا المعاصرة؟

في حقيقة الأمر أن فراغاً هائلاً قد حلّ بين مستخدمي اللغة العربية وواقعهم الذي يعيشون فيه حالياً، وأوصل في بعض حالات التجاذب إلى ما يشبه الشيزوفرينيا اللغوية.. يختار المرء عبارات لا يقصدها، ويقصد أفكاراً لا يُعبّر عنها.. وأذكر في هذا السياق تعليقاً للزميل الدكتور إبراهيم البعيز مرة على العبارات التي تُلقى على عواهنها، مثل: ما أدري كيف أشكرك؟ فيرد الدكتور إبراهيم بابتسامته المعهودة، وسخريته اللاذعة: يا أخي قل شكراً!

وفي الضفة الغربية من البلاد نجد مصطلحاً آخر للمرحلة التالية بعد الهطبلة (هو: «السبهللة») يستخدمه الحجازيون للتعبير عن التصرفات الفردية أو المؤسساتية، التي لا تأخذ نهايات الأفعال ومنطقية تسلسل الأحداث في الحسبان، ولكن على طريقة خفة دم أهل الحجاز ووزن كلماتهم وأصواتها المنسابة.. فمن خلال تلك التصرفات يعمد المدّعون إلى اتخاذ الوصاية بتنفيذ إستراتيجيات غير مجدية، منطلقها من تبني أفكار أوحت بها عبارات تدور في إطار الهطبلة أتى بها أناس يدّعي أحدهم بأنه أكثر الناس فهماً.

كل ما في «الهطبلة» و»السبهللة» يهون عند ما تثيره فينا «الغثاثة»، التي ترفع مستواها تلك العبارات المنافية تماماً لواقع الحال. يحدث ذلك عندما يدّعي أحدهم النزاهة بعبارات قطعية، تتملَّك المتلقي الدهشة من قدرة مُنشِئها على ادّعائها، وعندما يتباهى بالنزاهة والعدالة في قراراته واختياراته، وهو أكثر الناس انغماساً في المحسوبية والعمل من تحت الطاولة. أقوال تثير عند المرء غير المُلوث الغثيان.

أين مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية عن الاهتمام بمثل هذه المسارات في اللغة لدى أبنائها؟ أم أنه مشغول بعقد الندوات والمؤتمرات وتبادل الآراء كما تصنع المجامع اللغوية رديئة السمعة؟

أين ساستنا وقادة الرأي لدينا عن عثرات هذه المراحل، وأثرها العميق في تطور المجتمع الفكري وإعاقة مسيرة التنمية؟ أعرف أن كثيراً من الساسة لا يدركون أبعاد هذه الأزمة على الإطلاق.. ولا يعون خطورتها في بناء الشخصية الجمعية والاعتزاز بالثقافة، والأوطان الحاضنة لتلك الثقافة.. كما أعرف أن بعض قادة الرأي يشتركون مع الصنف الأول في هذا الفهم من حيث الجوهر، لكنهم يرددون المقولات التي صنعتها الأجيال السابقة بأن لغتنا بخير، وأنها لغة القرآن، مع الخلط الشديد الذي قد لا يدركه من يظنهم الساسة خبراء في شأن اللغة.

دعنا «نهطبل» يا دكتور محمد عن الحرير والخز، ونترك اللغة لحماة يتكفّلون بها، ودعنا كذلك نمارس «السبهللة»، ونترك لهم التصرفات الحكيمة.. لكننا في كل الأحوال لن نكون قادرين على الوصول إلى مرحلة الغثاثة، لأنه ليست بأيدينا مصالح!

- الرياض
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 9337 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة