Culture Magazine Saturday  02/11/2013 G Issue 415
فضاءات
السبت 28 ,ذو الحجة 1434   العدد  415
 
رؤية
أيام الماضي أمامك
فالح العجمي

 

لفت نظري ما توصل إليه علماء النفس الإدراكيون من أن الإنسان قادر على أن يستخدم التخيل في إعادة صياغة الماضي؛ وانطلاقاً منه يوظف المنتج في صناعة الحاضر والمستقبل. وهذا يعني أن المرء يستطيع إعادة ابتكار نفسه مرة أخرى، وأن الذاكرة تظهر أنك غير محدود إلا بقدرتك على التخيل. فكيف تصنع الذاكرة ذلك؟ وإذا لم تكن الذاكرة على درجة عالية من الموثوقية، فلماذا يعتمد عليها الإنسان بالدرجة الأولى؟

إن الذاكرة لديها القدرة على السماح لنا بالتعلم من تجاربنا، دون أن نضطر إلى تكرارها بصورة أبدية. وفي الواقع، هي أحد أسباب قدرة الإنسان على مقاومة الانقراض. فالذاكرة تعمل -في الغالب- على تكثيف جوهر تلك السيناريوهات التي مرت بنا في مواقف الحياة المختلفة، لنستعرضها سريعاً، ونختار ما يتوافق مع رغباتنا الآنية في قرارات تتعلق بحالات مشابهة للتجارب السابقة. وقد أفادت الإنسان في تاريخه من خلال تزويده بالطرق الأفضل لمقاومة الأخطار، أو التعامل مع الظروف المستجدة، مما له علاقة ببعض الشؤون السابقة.

والجدير بالذكر، أنها أكثر من وسيلة مقاومة للانقراض؛ فقد توصل عالم النفس أولريك نيزر، إلى أنها تعد من مراحل الوهج الاجتماعي، وعنصر إشباع جوهري للاندماج في ظروف الجماعة السابقة والآنية. وبالنسبة للمشروع، الذي أشرف عليه هذا العالم في جامعة كورنيل، فإن عملية تذكر أحداث الحياة بدقة أقل أهمية من حفظ المعلومات مرتبطة بالناس، والعلاقات التي تحكمهم بها، والجوانب ذات الاستمرارية الطويلة في الأحداث؛ كل ذلك يمكن استنتاجه من التجربة البشرية.

وقد اكتشف الفريق المحلل لنتائج المشروع، أن الإنسان ماهر جداً في تذكّر الأحداث، التي تجعل علاقات كل فرد مع بقية الأفراد في المحيط الاجتماعي مستمرة، بل وربط العناصر التي تجعل تلك العلاقات قوية فعلاً، أو تبدو كذلك في نظر الأطراف الفاعلة من أصحاب العلاقة. كما أن تأويل صلات العناصر بعضها ببعض يبدو معقداً، لكنه قائم على أسس نفعية بالدرجة الأولى، حتى وإن لم يعِ صاحب التأويل تلك الأسس. ففي بعض اللوحات الفنية ذات القيمة العالية، على سبيل المثال، يكون الميل في التأويل لصالح فكرة تخدم التخطيط الحاضر أو التفكير في المستقبل. يحدث ذلك من علماء وأعلام مشهورين في حقولهم، دون أن يعني ذلك أن ذاكرتهم تخونهم، أو أنهم غير مخلصين لعلمهم أو مهنتهم.

وعلى المستوى اليومي، وفي كثير من صور الحياة المختلفة، تبدر ظاهرة أن المرء يقف لبرهة من الزمن مشدوهاً أمام شخص يراه، أو منظر لم تساعده آلياته الذهنية الآنية في موقعته في منظومة الدماغ؛ فيلجأ إلى الجدار القصير (الذاكرة الواعية)، لعلها تسعفه بشيء من التأويل الذي يخرجه من مأزقه. فيقول غالباً في مثل هذه الأحوال: هذا الشخص سبق أن رأيته في مكان ما.. لكني لا أعرف متى؟ ولا أين مكان ذلك اللقاء؟

وفي سابقة غير معهودة لبحوث علم النفس المعرفي، سعى الاتجاه المعني حديثاً بأمور الذاكرة إلى ربط تذكر الأشياء لدى الإنسان بسعيه الدائم إلى تذكر مصادر تلك الأشياء؛ مما يعني أن الصور المتصلة من كل من السبب والعناصر والنتيجة قد أصبحت مزيجاً مشتركاً يتكون منه خليط الذاكرة الراسخة في تعريف الأشياء والارتباط بها. وهو ما يخلّص الإنسان في سعيه الدائم لتحرير حاضره من الماضي، والتفاؤل بمستقبل أجود من الحاضر، من كون تلك الصور ضبابية معتمة. وقد أطلق على تلك الفوضى، التي عاش فيها الإنسان قبل حصوله على حق الفردية المطلق مصطلح imagination inflation. فهل نتوق إلى ماضٍ يصنع مستقبلنا؟

- الرياض
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 9337 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة