Culture Magazine Saturday  02/11/2013 G Issue 415
فضاءات
السبت 28 ,ذو الحجة 1434   العدد  415
 
خَالِفْ تَعْرِفْ...
النعمة الإبراهيمية
ياسر حجازي

 

(أ)

كما أنّ طبيعة حياة الإنسان مجبولة على حدود وقيود عديدة تتشابه في المألوفيّة والتخوّف، مألوفيّة الانتماء إلى الأشياء والأفعال والحالات أيضاً والخوف ممّا يخالفهم، كذلك أصل في طبيعته أنّه مجبول على التحرّر من خوفه وقيوده، وأعنفها هي النفس، لأنّ المرء أسير نفسه فإن أفلت منها وحرّر قلبه للشك والبحث فإنه يبدأ رحلة وعي ما كان ليؤتى ثمارها وهو مأسور تحت استبداد النفس. ومجازاً أكتب: أنّ الشاةَ إذا ما خرجتَ تمتازُ عن القطيع ميزاً، وليس شرطاً قطعيّاً أن يكون الميز على دلالة الأفضليّة بل علامة، والعبرة بمآلات التجربة، لكنّ وأد التجربة وتجريمها يُفضي إلى ركود وتهالك معرفيّ يؤدّي إلى الجهل؛ وصحيحٌ (تُعْرَفُ) أنّها خارجة، لكنّها سوف (تَعرفُ) ما لا يعرفه القطيع، إن ضلّت المرعى إلى يبابٍ موحشٍ، أو هي اهتدت لأمكنة لا تعرفها الخراف؛ وكلا نجاح التجربة أو فشلها يُضفي معرفة ما كانت الشاة الخارجة لتكتشفها وتضيفها إنّ بقيت مستزلمة بين القطيع.

(ب)

الشكّ خصوصيّة تفرّد بها الإنسان، وهو جزءٌ من عمل القلب/الدماغ، وبه صار إنساناً وخرج من مألوف غريزي في عالم الحيوان إلى مختلفٍ واعٍ عند الأنسنة، يشكّ في المألوف ويمضي باتّجاه الجديد والمزيد، كلّ يومٍ يقلّب ما اكتشفَ: بين ما اتئلفَ وما اختلفَ ثمّ دواليك (تجربة ومعرفة ونقد) منظومة بعد أخرى؛ هذه وظيفة القلب/الشك، وهو ما نجده واضحاً في المتن القرآني: (أمْ على قلوبٍ أقفالها)، (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنّها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وصدر الشيء صدارته ورأسه، وهو عندي في الآية بمعنى رأس الإنسان وليس القفص الذي يضمّ الرئتين ومضغّة الدم، لأنّ القلب هو الدماغ الذي يعقل ويفكّر ويفقه ويتدبّر ويحبّ ويكره، وليس مضغّة الدم؛ فما الذي يبقى من الإنسان إن فسد الشكّ في العقل والفكر وهما من أعمال القلب/الدماغ، واستسلم للمعرفة النهائيّة.

القولُ المنسوب للنبي العربي عليه السلام: (كلّكم راعٍ، وكلّ راعٍ مسؤولٌ عن رعيّته)، محلُّهُ أنّ المكلّفَ -صاحب الأهليّة المعتبرة شرعاً –وإن لم يكن على عاتقه عيالة أحد من أبنائه أو أيتامٍ فإنّه بالحدّ الأدنى عائلٌ نفسه- فهو راعٍ نفسه أن تهتدي وتطمئنّ عبر (النعمة الإبراهيميّة) في الشك والعصيان على راعي الآبائيّة وعصاته، وحجّته: (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسالوهم إن كانوا ينطقون)؛ فالمعرفة بالقلب: الذي يقلّب الأمور ويشكّ بها وينقدها، والجهالة في المكوث، وكلّ مكثٍ قفلٌ شديد على باب القلوب/الأدمغة. وكما أنّك تقلّب (الشيء الذي تريد شراءه: طعاماً أو ملبوساً أو غير ذلك) ولا تكتفي بظاهره فإن تأكّدت من سلامته اشتريت أو عافت نفسك من فساده، كذا حال العادات والتقاليد والأعراف والأفكار قدر ما أعجبك ظاهرها فإنّ القلب يُطالبك أن تقلّبها؛ ولكم سوف تجد فساداً فيها ما كنت تراه دون تقليب، فأي قدرة لك حينذاك أن تستمرّ عليها؟! (ذاك قرارك).

لماذا إبراهيم كان أمّة؟ وأصل دلالة (أمّ) المقصدُ والغايةُ. لأنّه قلّبَ عادات قومه جميعها، فعاف الأكل الفاسد، والفكر الفاسد.

وأيّ مقصدٍ هو أمّةٌ حتّى نهتدي على إثره! كان على منهج الشكّ/القلب الذي اطمئنّ عبره وبه إلى الإيمان، واهتدى إلى سوءة الآبائيّة وفساد تثبيت المعرفة دون نقد أو شك؛ عِلّة الآبائيّة اليقين بلا شكّ أو مراجعة، هكذا يقين هو موت للمعرفة، وقتل لصيرورة الحياة. كان إبراهيم أمّة على دلالة الشك، أمّة على دلالة اللا-انتماء للجهل، أمّة على دلالة نعمة القلب الذي يشكّ وليس على بابه قفل موصد، أمّة على دلالة أنّه بمفرده يفوق جماعة من الناس على قلوبهم أقفالها. إنّ قوله عليه السلام –إن صحّ الإسناد- كلّكم راعٍ أساسٌ في الفرديّة الإنسانيّة تحسب للموروث العربيّ، وهو يتماشى مع المتن القرآني: (كلهمٌّ آتيه يوم القيامة فردا)، لأنّ كلّكم راعٍ تُحرّرهم من فكرة القطيع، فقوله (عليه السلام): (كلّكم راع) لا ينبغي حملانه على (كلّكم قطيع)، بل (كلّكم مسؤول، كُلّكم حرٌّ، كلّكم راشدٌ..) فالإنسان مسؤول عن أعماله، هكذا تضرب المقولة مفهوم القطعان بل وحتّى مفهوم الجماعة كحاملة للمسؤوليّة بالنيابة عن الفرد، تضرب مفهوم الجماعة الذي يريد أن يطمس الفرد، حينما يتحوّل الكيان إلى مسؤولين/رعاة، بينما القطيع ليس من الإنسان بشيء، بل هي الأفكار والأعمال وما يتوجّب على المرء/الفرد أن يطوّره ويرعاه، أمّا أن يتحوّل الإنسان الحرّ الراعي إلى مرع أو عددٍ يساق ولا يعوّل إليه، فذاك من صنيع الاستبداد والاستعباد معاً.

(ج)

كلانا راعٍ فمَنْ هو القطيع؟ هل فكّرتَ في ذلك قبل مواعظ لا تفتر همّتك ترميها على الناس من عَلٍ، كيف إن كُنتَ على ضلال وكنتُ على هدى!

مَنْ أنتَ إذاً؟ من هؤلاء؟ حذار الظنّ أنّك الراعي على دلالة أنّهم القطيع، إذّاك وقعت في شَرَكٍ أقلّ ما فيه: أنّك صرت قطيعاً وأفكارك هي الراعي. وهاك سؤال: هل أفكارك لكَ، هل الأفكار مملوكة أو مالكة كيف تملّكها نفسك؟ تأمّل يرحمك الله ماذا فعلت بنفسك حينما ظننت أنّك أنت الراعي وأنّ الناس القطيع.

أنتَ ربُّ أفكاركَ؛ فلا تجعلها ربُّكَ فتقع إذّاك في الشرك. أنتَ سيّد أفكاركَ، قلّبها كيفما تريد، خذ منها ما يناسب الظرف: مكاناً أو زماناً، لا تكن عبداً لها يا عبدلله. فإذا ما تحرّرت من فكركَ إذّاك كنت إلى الإنسان أقرب، وكنت إلى النور أقرب، وكنت إلى الحريّة والمحبّة أقرب.

الفكرةُ من صنيع الإنسانِ، فكيف يعبد الإنسان ما يصنعه!

(د)

إنّ قولهم: «خَالفْ تُعْرَفْ» هو قولٌ تهكّميٌّ يُرادُ منه إحباط عزيمة المخالف ومصادرة حقّه الطبيعيّ الإنساني في البحث، وتحويل المسألة من مسألة معرفيّة (تَعْرِفْ) إلى مسألة شخصيّة (تُعْرَفْ). فالخلاف أساسٌ في المعرفة الحيّة، والاختلاف أساسٌ آخر؛ وأصلٌ في المعرفة أنّها متغيّرة وغير ثابتة، وأنّها متكاثرة بالتبدّل والتغيّر، فالمعرفة ليست عقيمة، ومن أراد أن يجعلها نهائيّة ومستقرّة إنّما يصيبها في عُقْمٍ هو ليس منها، لأنّها تتحوّل حينها إلى صنم لا يتأثّر بشروط كينونة المعرفة وسيرورتها وصيرورتها (كيف تكون، وكيف تسير، وكيف تصير)، فكلّ معرفة ذات نفع باشتراط الظرفيّة والصلاحيّة، وكلّ معرفة مطعون بها في غياب الظرفيّات الناشئة لها. فالمعرفة النهضوية قائمة على منظومة من الخلاف والاختلاف والتجديد والتغيير والإضافة والتعديل والإلغاء، فإذا أجبرت المعرفة على معارضة سيرورتها وصيرورتها الكائنة على (الشك-والنقصان والتغيير) تعطّلت منظومتها وخرجت من طبيعتها كمعرفة إلى عائق معرفة.

الأصل في المعرفة أن تؤمن أنّ المعرفة ليست نهائيّة وأنّها دائماً عُرضة للخطأ، أو النقص، أو الطعن، أو التقادم أيضاً، بحيث إنّها إن كانت صالحة في زمان ما، فإنّها قابلة لفقدان الصلاحيّة في أزمنة أخرى.

(لا تشكّ)، (لا تبحث)، (لا تجادل)، هذا ما تحمله تهمة (خالفْ تُعرف).

ما الذي لدى الإنسان يفرّقه عن الحيوان أهم من هذه النعمة التي وهبه الله إيّاها: نعمة إبراهيم.

هكذا تمضي المقولة في مرادها في سلب الشك وطمس إنسانية الإنسان واتهامه بالجنون الشخصي تمهيداً لشيطنته، ممّا يجعله محلّ استنكار (فيُعرف) على أنّه خطرٌ، فكأنّ المقولة ونيّة فاعلها شيطنةُ هذا الذي حرّر قلبه من الأقفال واستعاد أو وجد إنسانه.

لا نقول إنّ كلّ مُخالف أو خارجٍ متقدّمٌ بالضرورة في محلّ مخالفته وخروجه، إنّما هو على الطريق إليها، لأنّ المرعى الآخر لن يكتشفه الراعي لطالما ظلّ متّبعاً لا مبتدعاً، فانتبه جيّداً: أنت الراعي والأفكار هي المرعى، فلا تعكس المسألة.

Yaser.hejazi@gmail.com - جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة