Culture Magazine Saturday  02/11/2013 G Issue 415
فضاءات
السبت 28 ,ذو الحجة 1434   العدد  415
 
من أسرار الكتابة
د. شهلا العُجيلي

 

Words, words, words…

يستغرق «هاملت» في القراءة، ولا يفهم محاوره شيئاً من ترديده للمفردة:

كلمات، كلمات، كلمات....

لعلّ الذين يعيشون بين الكلمات، يؤوّلون قول شكسبير نحو أنّ العالم ليس سوى بناء من الكلمات، ففي البدء كانت الكلمة، ومنذ أن كانت، لا يكفّ الكتّاب عن تحويل أيّ شيء، وكلّ شيء إلى كلمات، يحبسون أنفسهم والآخرين فيها.

وحينما يحوّل الكتّاب ما في داخلهم، وما حولهم إلى كلمات، يقعون في الخطأ، فذلك أنّ الكلمات تبقى حياديّة ببقائها نوايا مبيّتة وكامنة، وتصير منتمية وإديولوجيّة حينما تتخلّق، أي حينما تكتب وتلفظ، فنحن نحبّ ونكره بالكلمات النائمة، لكنّنا نقع في أخطاء الحبّ والكره في الكلمات الحيّة، المنطوقة والمكتوبة، و «بين منطوق لم يقصد، ومقصود لم ينطق، تذهب المحبّة» كما يقول جبران. ولو لم يقل طرفة بن العبد كلامه، لأبقى على رأسه، ولنلنا حظوة معرفة المزيد من شعره، وقد عرف خاله المتلمّس ذلك، وحذّره قائلاً: «ويلٌ لهذا من هذا» ويقصد: ويل لرأسك من كلامك، و حاول النقد فيما بعد، أن يبرّئ الكاتب من كلامه، ويفصل النصّ عن صاحبه، ويجعله بنية مستقلّة ومقطوعة بمجرّد نجوزها.

للكتابة خسائرها، وقرابينها، إنّها أشبه بمقامرة بالكلمات، وأشبه كذلك بالسهام التي تخبط خبط عشواء، فتقع الكلمات في صدر أحد المتلقّين، وتجعله يتعلّق بكاتب ما، ويعشقه عشقاً أبيّاً، وربّما عشقاً مرضيّاً.

يعرف الكاتب خسائره، لكنّه يستمرّ بالمقامرة، لأنّ هناك منحاً سماويّة تمنحها الكتابة له، قد ترضي رغبته في المخاتلة والمكر، أو رغبته في محاكاة عمليّة الخلق، أو نرجسيّته، أو لعبته الطفوليّة المتخفية وراء قناع الكلمة، ولعلّ أخصّ هذه اللحظات لحظة يقف الكاتب أمام شخصيّاته وجهاً لوجه.

لاشكّ في أنّ صناعة الشخصيّة فنّ دقيق، وعلم في الآن ذاته، وخلاصته أنّ ليس ثمّة شخصيّة حقيقيّة صرف، فكلّ شخصيّة في العمل الفنيّ متخيّلة، وتختلف النسب في الخلطة الكتابيّة بين الوقائعيّة والخيال، وتنحصر هذه النسبة بين الصفر و المئة، وبذلك تكون الواقعيّة التي لا تعني الحقيقية، بل تعني أنّ قوانين الواقع لا تمنع وجود مثل هذه الشخصيّة.

يشعر الكاتب بانتصاره على ذاته، حينما يواجهه شخص حقيقيّ، حوّله الكاتب إلى شخصيّة روائيّة، ثمّ يقوم هذا الشخص بمناقشة الكاتب في الشخصيّة التي هو أصلها! زارتني سيّدة أعرفها، وأخبرتني بمدى إعجابها بشخصيّة في إحدى نصوصي، وأنّها عاشت معها تفاصيلها بشغف. كانت تلك السيّدة نواة شخصيّتي الروائيّة ذاتها، لكنّني حوّلت وجودها الفيزيائيّ إلى كلمات، ولعبت على مصيرها في الرواية، لا أعرف إذا ما كنت قد جعلتها أقلّ شقاء، أو أكثر! إنّني حرفت مسارها فحسب.

عبّر لي قارئ عن مقته لواحدة من شخصيّاتي الذكوريّة في رواية أخرى، ونعتَه بالبخل، وبالغباء، وبالجبن. كان الرجل يتحدّث عن نفسه، لكنّه قرأ ذاته بمنظار النصّ، لا بمنظاري الشخصيّ، ولا بمنظاره هو!

قد تصيرالكتابة في جزء منها مبعث حزن للكاتب، وذلك حينما يحاسب الكاتبَ أولئك الذين يتصوّرون أنّه هو في كلّ ما يكتبه، هو الآثم والضحيّة. ويحزن الكاتب حينما يلاحقه أولئك الذين يحبّون أن يتحوّلوا إلى شخصيّة من شخصيّاته، وأن يروا أنفسهم في نصوصه، ويوهمونه مثلما يوهمون أنفسهم بالحبّ. قد يقع الكاتب في الوهم، لأنّه يستفيد منه، فهو كائن براغماتيّ على نحو ما، لكنّ صاحب الصنعة يستطيع تضليلهم، لا يمنحهم أبداً ما يريدون، إنّه يصنع ما يريده هو.

هذا ما باح به درويش يوماً ما، حينما قال:

هي لا تحبّكَ،

يعجبها مجازكَ،

أنت شاعرها، وهذا كلّ ما في الأمر!

وأدرك قبله نزار الحالة عينها: حينما قال:

ما تفعلين هنا،

ما تفعلين هنا؟!

فالشاعر المشهور ليس أنا،

لكنّني بتوتّري العصبيّ أشبههُ

...

وبحزني الأزليّ أشبههُ،

هل تسمعين صهيل أحزاني؟!

أرجو أن يدرك المتلقّي أنّ للكتاب أحزانهم، وأوهامهم، ومتاهاتهم، لكنّ أحزانهم تمتدّ غابات، وتصير صهيلاً يريدون من الآخرين الإصغاء إليه، فأيّها المتلقّون رفقاً بكتّابكم!

- عمّان

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة