Culture Magazine Thursday  03/01/2013 G Issue 392
فضاءات
الخميس 21 ,صفر 1434   العدد  392
 
الزنزانة أنثى
عبدالله العودة

 

لا تزال تجتذبني دائماً كتب السير الذاتية للمهتمين والمؤثرين العرب..مع أني أتهم نفسي بعدم القراءة الكافية بهذا المجال الذي ألتذ به..وفي مجال الحديث عن الذات والسير كتب مبدعون ومفكرون وسياسيون ومؤرخون عرب سيرهم الذاتية منذ التاريخ المبكر العربي.. بيد أن الأنثى لم تحظَ بذات الاهتمام والتدوين الذاتي والثقافي. كتب السيوطي عن نفسه، وكتب الشوكاني.. والغزالي في تجربته الفكرية «المنقذ من الضلال» وابن حزم تجربته العاطفية «طوق الحمامة» وآخرون كثيرون وسجل معاصرون لا حصر لهم من أصقاع الأرض المختلفة مذكراتهم وذكرياتهم.. وكان مجموعة كبيرة منهم تحدث عن تجربة السجن أدبياً فمنهم من قدم كتاباته الشعرية والأدبية أو قصص النضال والاعتقال مثل نجيب الكيلاني والتلمساني وشريف حتاتة ورفعت السعيد.. وآخرون كثر..إذا تحدثنا عن العرب وحدهم بينما المكتوب من غير العرب في هذا الباب شيء لا يمكن حصره ولاشك أنه يقف في مقدمة كل ذلك كتابة نيلسون مانديلا لتجربته.

لكن هذا المقال يتحدث عن كتب وسير ذاتية وروايات ومذكرات وذكريات أنثوية عاشت ذات التجربة ومرت بظروف الاعتقال ودونت كل ذلك فكانت في الأدب العربي المعاصر إضافة مهمة وتجربة غير عادية، رغم أن أسباب اعتقالهن مختلفة، واتجاهاتهن الفكرية شبه متناقضة في بعض الأحيان بل واهتماماتهن وهواياتهن قد تبدو غير منسجمة.. إلا أن الظروف العامة التي جلبتهن جميعاً لهذه الغرف المظلمة كانت متشابهة في وجود جو يخاف من الصوت فيسابقه لأجل دفن الأنوثة خلف القضبان الذكورية الجامدة.. والمثير في الأمر أن اختلاف تلك الأسماء الأنثوية واختلاف أيدلوجياتها واتجاهاتها ومرورها بنفس التجربة المعتمدة على التبكيت والتسكيت.. يدل على أن المستبد عادة يعاني من عمى الألوان والتيارات والاتجاهات.. فهو لا دين له ولا مذهب ولا تيار إلا تيار الاستبداد لا شريك له.

ويا ترى كيف لهذا الحديد القاسي أن يتحمل هذا التاريخ والقصص التي دونتها أديبات ومثقفات وناشطات عربيات من أماكن مختلفة تحدثن فيه عن هذه التجربة فمثلاً: كتاب «حملة تفتيش/أوراق شخصية» و «سجن النساء» للكاتبة لطيفة الزيات..مذكرات شخصية لناشطة مصرية أيام النظام الملكي تحكي فيه تجربة الاعتقال بأسلوبها المهذب وعن قصص العائلة وتاريخها حين تم اعتقالها وهي في العشرينات من عمرها غضة بضة..فقذف بها الملك فاروق في سجن الحضرة بالإسكندرية فحكت تجربتها الأدبية وتاريخها وتاريخ العمل السياسي للعائلة.. حيث تم اتهامها بالانضمام لحزب شيوعي ذي أهداف سياسية.. فكانت حتى صديقاتها السجينات الأخريات يؤنسن وحشتها حيناً ويزدنها وبالاً حيناً آخر حين تحذرهن السجانات من «لطيفة الزيات» لأنها «تتفجر كالديناميت، وتلتهب كالنار، وتتسرب من قبضة اليد كالماء، وقد حاولت الهرب منذ أيام فلا تدعيها تغيب عن عينيك، أو تتصل ببقية السجينات فلها لسان كالمزراب ينثر الثورة والتمرد أنى كان».

بينما الزيات حكت تجربتها، كتبت اللبنانية سهى بشارة مذكراتها «مقاومة» التي تحدثت فيها عن نفسها وظروف اعتقالها من الاحتلال الإسرائيلي أيام اجتياح جنوب لبنان واحتلاله لها.. فلبثت في السجن قرابة العشر سنوات..دخلته وهي في أول عشرينياتها فقدمت في كتابها هذا قصصها وقصص المشاعر فهي طالبة شيوعية متحدرة من عائلة مسيحية أرثوذوكسية فقدمت سنوات من عمرها لأجل لبنان وحرب الاحتلال الإسرائيلي في لبنان بمعتقل «الخيام».

وقبل هذه السنين العشر كاتبة وناشطة أخرى قدمت مذكراتها وتجربتها..وهي الناشطة في داخل صفوف الإخوان المسلمين (أو الأخوات المسلمات في هذه الحالة) زينب الغزالي في كتابها «أيام من حياتي» حيث سجنت ست سنوات منذ عام 1965م في أيام جمال عبدالناصر وتحدثت عن ظروف التعذيب والإرهاق والآمال والأحلام..حيث دائماً ما يكون المحروم المرهق في مثل هذه الظروف الصعبة ميالاً لملء نفسه وخياله بالأحلام المستقبلية العذبة.. وذكرت قصصها وارتباطها بالدعاة الإخوانيين داخل السجن وخارجه وهي التي أسست «جمعية الأخوات المسلمات».

وبعد رحيل عبدالناصر ومجيء السادات..وانقلاب العبث بالتيارات واستخدام القمع، مال السادات لمغازلة التيار الإسلامي.. وتم تقديم رشوة قانونية وسياسية.. ولأن نوال السعداوي كانت ناشطة نسوية تعرضت للتهديد والضغط ومحاولة التأثير عليها حتى تم سجنها أيام السادات في عام 1981م فقدمت عنواناً شبيهاً لعنوان لطيفة الزيات .. أسمته «مذكراتي في سجن النساء» تحدثت فيه عن هذه التجربة بالتفصيل.. وتحدثت بطريقة سردية مختلفة في مذكراتها الكاملة ذات الثلاثة أجزاء «أوراق حياتي» التي تقيأت فيها كل الشعور بعدم الرضى الذي تحمله تجاه كل شيء حولها.. من الزمان والمكان..والتراث والذات والمجتمع..والرجل والتاريخ بل وحتى عائلتها وتجاربها الزوجية ..وقصص الطفولة حتى منذ لحظة خروجها. تقول في حالة أهلها حين ولادتها- حسب رواية جدتها-: «أطلّت من الباب الموارب لترى الرأس الصغير محشوراً في.. يرفض الخروج إلى الدنيا. رأس ناشف، عنيد صلب، مثل الحجر، أسود بلون الليل، مستدير مثل الكرة الأرضية متوقف في.. المتّسع على شكل دائرة بحجم قرص شمس حمراء بلون الدم»

نوال.. هي هذا الرأس الأسود بلون الليل ..كيف خرج فتكمل: «مع الصرخة القوية المنطلقة من بطن الأم خرج الرأس الأسود الصلب. توقف عند منتصف العنق متردداً بين الدخول والخروج» وهكذا كانت عنيدة مختلفة.. تتحدث فيه عن كل شيء حتى مرضها الذاتي وهي الطبيبة!

ولعلنا ونحن نتحدث عن تجارب مشابهة لا ننتهي دون الحديث عن الرواية/المذكرات الأشهر في هذا الاتجاه.. لعربية مغربية دزنت تجربتها في كتابين «السجينة» و«الغريبة» عن قصة السجن والعذاب وظروف التجويع والترهيب لمدة تسعة عشر عاماً.. انتهت بلحظة الهروب الكبير.. ثم في الكتاب الثاني عن لحظاتها في الاغتراب النفسي والتعرف على العالم بعد كل سني العذاب هذه.. وكتبها الشهيرة هذه ترجمتها للغات عديدة حول العالم .

في البدء كان السجن ذكراً.. ثم أصبحت الزنزانة أنثى.. ولأجل هذا فإن عربيات أديبات ومناضلات وكاتبات من خلفيات ثقافية واتجاهات فكرية مختلفة سجلن فترات مختلفة من النضال ومن العمل الفكري المختلف ونالهن نصيب من ضريبة الدخول في المجال العام والحديث السياسي والرأي وأحياناً الدفاع عن العدالة في بلد تذهب ميزانياته لبناء معتقلات جديدة..فقط لتأمين مستقبل الأجيال!

abdalodah@gmail.com - الولايات المتحدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة