Culture Magazine Thursday  04/04/2013 G Issue 401
فضاءات
الخميس 23 ,جمادى الاولى 1434   العدد  401
 
عن الدكتور عبدالعزيز محمد الفيصل.. (بعد) ملف الجزيرة
عبدالله مناع

 

في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي.. كنت في زيارة إلى بريطانيا.. وقد شاءت الظروف وقتها أن أقوم بزيارة لسفارتنا في (لندن).. حيث كان الدبلوماسي السعودي المتميز الأستاذ نوري إبراهيم.. يعمل قائماً بالأعمال: يتولى شؤون السفارة ويشرف على كل أعمالها، بعد تقاعد سفيرها اللامع الشيخ عبدالرحمن الحليسي.. وقبل قدوم سفيرها الأكثر لمعاناً الشيخ ناصر المنقور، ولأنني شرفت بزيارته عند نهاية دوامه ودوام السفارة ككل.. فقد حرص -بكرمه ونبله- على أن يقوم بإيصالي إلى فندقي في طريق عودته إلى منزله، وقد كان.. لأجاوره في سيارته ذات المقود الأيسر -التي جاء بها من ألمانيا- وعلى عكس مقاود كل العربات في بريطانيا.. ذات المقود الأيمن، نظراً لطبيعة السير على اليسار.. التي تنفرد بها بريطانيا عن معظم دول العالم!!

ومع تباطئه في القيادة.. طال بنا المشوار، فكان ذلك مدعاة لتأمل شوارع لندن بواجهاتها وعماراتها وفخامة ميادينها وتماثيلها.. بدقتها وروعتها وهو ما دعا كلينا لتذكر حال تخلفنا (نحن) مقارنة بما كنا نراه حولنا من ذلك الكمال الحضاري! ولكن.. ولا أدري كيف، تذكرت فجأة أننا أصحاب سهم قديم في هذه الحضارة، وأن وثيقة قبولنا أو أوراق اعتمادنا.. التي يمكن أن نقدمها -مجدداً- للعالم بأننا أمة ذات حضارة وفكر ووجدان إنساني راق.. إنما تتمثل في شعرنا الجاهلي: صحيح أننا لم نخترع سيارة ولا باخرة ولا طائرة ولا هاتفاً ولا مطبعة.. طوال تلك السنين الماضيات، ولكننا قدمنا حضارة (تأملية).. قوامها فكر ناصع، ولغة لا أجمل ولا أرق وأدق منها، وبيان كأنه السحر.. هي تلك التي تضمنتها (المعلقات) الضاربة في أعماق التاريخ، ثم أخذت أستشهد بما أسعفتني به الذاكرة من شعر (امرئ القيس).. كقوله لرفيق دربه وهو في طريقه إلى قيصر الروم (يوستينبان) للاستعانة به في استرداد ملك أبيه (حُجر بن عمرو):

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينك إنما

نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

أو كقوله عند قدومه في الصحراء على ذلك القبر المجهول.. وقد بدأته علة حلته المسمومة:

أجارتنا إن الخطوب تنوب

وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنا غريبان هاهنا

وكل غريب للغريب حبيب

مرت على تلك الذكرى.. أيام طويلة: ثلاثون عاماً.. أو يزيد، إلى أن فاجأني الصديق الشاب الأستاذ محمد عبدالعزيز الفيصل الصحفي المتميز بجريدة (الجزيرة).. والمحاضر بجامعة الإمام محمد بن سعود، الذي يسعى هذه الأيام لنيل الدكتوراه من الجامعة نفسها.. بخبر صدور كتاب من مجلدين لوالده: الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل عن (المعلقات العشر)، وتوزيعه في معرض الرياض الدولي للكتاب.. قبل الماضي، فعبرت له عن سعادتي بصدوره قبل أن أراه، وتهنئتي لوالده بإصدار كهذا.. فقد كان داخلي يشتاق إلى صدور كتاب يحمل أدب وفكر وشعر وبعضاً من تاريخ ذلك العصر الموغل في قدمه، والعظيم في أهميته ثقافياً وحضارياً. فقد كان الشعر الجاهلي آنذاك.. هو عنوان ثقافة العروبة وفكرها. كان باختصار يعبر عن ثقافة أمة، ويشكل محتوى إعلامها، ويبدو أنني قلت ما هو أكثر.. أو أنني استهديته الكتاب، ليأتيني بهما ابنه الصديق الأستاذ محمد الفيصل.. وقد صدَّرهما والده الدكتور عبدالعزيز بإهداء كريم، لأسوح في المجلدين.. بين الحين.. والآخر.. ودائماً، رغم معرفتي المحدودة بالأستاذ الدكتور عبدالعزيز.. والتي كانت تقف تلك اللحظة عند معرفتي به (أستاذاً) للأدب العربي بجامعة الإمام، و(والداً) لصديقي الصحفي.. أما قلمه وفكره وأبحاثه وشعره أو برامجه الإذاعية التي كان يقدمها من إذاعة الرياض فلم أكن أعرف عنهم شيئاً من قبل.. إلا من لمعة خاطفة بدت في حديث الدكتور عبدالعزيز عند أول لقاء به في أحد فنادق الرياض، عندما وجدته يشاركني أمنية حصول ابنه (محمد) على درجتي (الماجستير) و(الدكتوراه) من إحدى الجامعات الأوروبية الشهيرة كـ(السوربون) مثلاً.. وليس من جامعة الإمام التي منحته درجة البكالوريوس من قبل، إلا أن الابن آثر أن يبقى في جامعته، وأن يكمل فيها مرحلتي حصوله على الدرجتين.. ربما حباً في أساتذته أو تعلقاً بـ (جامعته)، وهو ما كان، لكن معرفتي الشاملة بالأستاذ الدكتور عبدالعزيز محمد الفيصل.. كانت وكأنها تنتظر (ثقافية) الجزيرة لتمدني وتمد الآلاف من قرائها بما لم يكن يعرفونه عن الأستاذ الدكتور عبدالعزيز.. عندما أصدرت (ملفاً) خاصاً عنه، وعن حياته وأدبه وشعره وأبحاثه وكتابه القيم النادر (المعلقات العشر).. في عددها الصادر في الرابع عشر من شهر فبراير الماضي، وقد عنونته إلى جانب صورته التي احتلت كامل غلاف (الثقافية).. بعنوان منصف دقيق (رائد جغرافيا الشعر)، لأجد في داخله ما برر جهلي بالدكتور عبدالعزيز.. وأدبه وشعره وأبحاثه التي أوقفها -فيما يبدو- على طلبته، فكيف كان لي أن أعرف الدكتور عبدالعزيز تلك المعرفة العميقة.. وأعيان أقلام (نجد) تستغيبه عندما دُعيت للكتابة عنه في هذا الملف؟! فالصديق العزيز الأستاذ حمد القاضي.. يكتب عن نجوميته (عالماً) و(أديباً) ولكنه يقف طويلاً عند تاجيه: (الخُلق) و(الزهد)، وهذا أديب نادي الرياض الأدبي الشاب الدكتور عبدالله الوشمي.. يصفه صراحة بـ (المتنوع المُختفي)! وهذا أديبنا التراثي الكبير عاشق الأندلس الأستاذ عبدالله الشهيل.. يكتب عن تفعيله لـ (ما كان) في حياة الأمة من أدب وشعر وتاريخ ليس للتفاخر به ولكن للبناء عليه، وهذا صاحب (الملف) ورئيس تحريره الدكتور إبراهيم التركي.. يتحدث عن (تضوع) أضواء الدكتور عبدالعزيز.. لا عن اتضاعه، وهو يقدم الملف.. معتذراً عن تأخره، ومعبراً في ذات اللحظة.. عن سعادته بـ (اللحاق) بإصداره، حتى وإن كان (قطرة) في بحر الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل..العذب!

لقد ذكرني هذا الغياب والابتعاد عن الإعلام وأضوائه الذي عاشه الدكتور عبدالعزيز في أكثر سنوات حياته، وعبر عنه أدباء الرياض -كل بلغته وأسلوبه- في ذلك (الملف) الثقافي الجميل.. بما كان عليه الشاعر العربي المصري الكبير الأستاذ محمود حسن إسماعيل، الذي آثر الابتعاد -في بداياته- عن الإعلام وأضوائه وضجيجه.. حتى بدا لمثقفي مصر وأدبائها وشعرائها.. وكأنه يعيش بعيداً في (كوخ) فوق جبل أو رابية: يتأمل ويقرأ ويكتب.. دون أن يفتح بابه لـ (ميكروفون) إذاعي أو لـ (كاميرة) صحفي.. إلى أن فتح نافذة الكوخ أخيراً، وألقى منها -كما صور ذلك الأديب الأستاذ أنيس منصور برشاقة قلمه- بـ (ديوانه) الأول: (أغاني الكوخ).. الذي كان عنوانه وكأنه مصادقة لما ذهب إليه أدباء وشعراء مصر في تفسيرهم لغياب (الشاعر) وابتعاده عن الإعلام وأدواته الصحفية والإذاعية آنذاك.. ليزحف إليه (الإعلام) بصحفييه وإذاعييه وقد أدارت رؤوسهم قصائد (أغاني) الكوخ، ويتسلق رابيته.. ويقتحم عليه كوخه الذي قبع فيه سنيناً طوالاً.. فيستكتبه رائدا الفن والغناء في عصره (سيدة الغناء العربي أم كلثوم وأستاذ الأجيال محمد عبدالوهاب)، ليكتب لهما أربعة من أشهر وأمتع قصائدهما المغناة بصوتيهما وفنهما المعجز الفريد: (دعاء الشرق) و(النهر الخالد).. لـ (عبدالوهاب)، و(رأيت خطاها على الشاطئين) و(يا ربا الفيحاء) لـ (أم كلثوم).

.. وهكذا سعى (الإعلام) لشاعر (الكوخ) الأستاذ محمود حسن إسماعيل، ولم يسع -هو- إليه.. ليضعه في قلب مشهده فيما بعد، وهو ما أحسب أنه سيفعله حتماً.. في اقتحام صومعة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل الأكاديمية بعد إنجازه الفريد في مجلديه عن (المعلقات العشر)، الذي أمضى - في جمعها وتحقيقها، وشرح مفرداتها، وزيارة مواطنها، وما أحاط بها من أخبار عن ظروف ولادتها والأحداث التي بعثت على قولها.. إلى حين وصولها إلى أستار الكعبة - عشر سنوات من البحث والجهد والعناء.. والسفر إلى المكتبات، والترحال في بطون أودية الجزيرة وشعابها.. حتى يتثبت من كل كلمة يخطها، ومن كل سطر يكتبه في سفر أسفاره وأعظم إنجازاته الأدبية كتاب: (المعلقات العشر) بمجلديه.

إن هذه الكلمة.. ومهما طالت، فإنها لن تكون قادرة على الوقوف أو حتى المرور على صفحات هذا السفر بجزأيه والبالغ عدد صفحاته.. ألفاً وأربعاً وسبعين صفحة، ولكنني سأتخير الوقوف بكلمة أو سطر.. عند القليل مما استلفتني وأثار عجبي وإعجابي بموضوعية ونزاهة الدكتور عبدالعزيز العلمية الموضوعية، كقوله.. بأن (شرح المعلقات السبع - أو العشر - بدأ في النصف الثاني من القرن الهجري الأول)! وأنه مع (بروز المدن الإسلامية الكبرى في القرن الثاني الهجري (دمشق والكوفة والبصرة).. أصبح شرح المعلقات متداولاً في المساجد وعلى ألسنة الرواة)! وأنه (لم يبرز شرح المعلقات في كتاب مستقل إلا في آخر القرن الثالث الهجري).. ولكل هذه المواقيت معناه ومغزاه في الابتعاد زمنياً عن النص القرآني - ما أمكن - ولغته المتفردة.. بعيداً عن شعر القوم ونثرهم!! وأن المعلقات هي سبع بالإجماع لـ (امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، ولبيد بن ربيعة، وعنترة بن شداد، وعمرو بن كلثوم، والحارث بن الحلزة) كما ذكر أحمد حسن الزيات في كتابه (تاريخ الأدب العربي)، وأنها تسع عند (النحاس) و(ابن رشيق) وفهرس (ابن خير الإشبيلي).. بإضافة (دالية) النابغة الذبياني و(لامية) الأعشى، إلا أن (التبريزي) المتوفى في مطلع القرن السادس الهجري (502هـ) وآخرين ممن تبعوه.. يعتبرونها (عشراً) بإضافة قصيدة عَبيد بن الأبرص.. ليزيد إعجابي وعجبي به عندما قال في مقدمته بـ (أن أول من طبع هذا الشعر في (دواوين الشعراء الستة) هو المستشرق الفرنسي (دي سلان) عام 1837م، وأن أول من تولّى شرح هذه المعلقات.. أو المذهبات كما كانت تسمى أيضاً.. هم أدباء وعلماء من خارج الجزيرة العربية.. قبل أن يأتي ابن الجزيرة العربية الدكتور عبدالعزيز ليقدم أول شرح جزيري لها، مع تحديد للأماكن التي شهدتها بالوقوف عليها وليس بـ (القراءة) عنها أو تتبع أخبارها في بطون الكتب ومعاجم تقاويم البلدان، مع شرح لمعانيها إجمالاً.. ولمفرداتها تفصيلاً، فليست كل كلمات المعلقات في سهولة وسلاسة معلقة امرئ القيس (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل - بسقط اللوى بين الدخول فحومل) أو معلقة عنترة (يا دار عبلة بالجواء تكلمي - وعِمِي صباحاً دار عبلةَ واسْلمي) أو معلقة طرفة (لخولة أطلالة بِبَرقة ثهمدِ/ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد)... مثلاً، ولكنها تحتاج إلى شرح مفرداتها.. ومعانيها الإجمالية، وهو ما كرس الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل.. نفسه له طوال تلك السنوات العشر، ليأتينا في النهاية بهذا الإنجاز الأدبي العلمي التاريخي الباهر دون شك.. الذي تتخطى قيمته وأهميته وفائدته طلبة المعاهد والكليات من الدارسين والباحثين أو الساعين لنيل درجتي الماجستير أو الدكتوراه.. إلى عموم مثقفي الأمة العربية ورجالاتها ونخبها في الداخل والخارج، الباكون على حالها.. وما أخذت تتدحرج إليه من ضياع وترمّد.. وتلك هي القيمة المضافة لهذا العمل الكبير الجليل (المعلقات العشر).

لقد كان الخلفاء والسلاطين.. يجيزون حفظة الشعر ورواته إن أتموا (عجزاً) لصدر، أو استرجعوا بقية قصيدة لم يبق منها في ذاكرة الخليفة أو السلطان غير مطلعها.. بآلاف آلاف الدراهم والدنانير! ترى بكم يمكن أن يجاز -وفق هذه القاعدة- الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل.. عن جهده المحلِّق في إنجاز هذا السفر العظيم (المعلقات العشر)..؟!

جدة
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5599 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة