Culture Magazine Thursday  04/04/2013 G Issue 401
فضاءات
الخميس 23 ,جمادى الاولى 1434   العدد  401
 
المعارضة.. والحرام السياسيّ
ياسر حجازي

 

(أ)

لكلّ نظام سياسي حرماته، وأصلٌ فيها جميعها عصمة النظام، وإنِ اخْتلفَتْ: كثُرتْ أو قلَّتْ. فأي فكرٍ أو فعلٍ (يُحتمل أو يُمكن) أن يُهدّد وحدة النظام وقوّته فإنّما يُدرج بقائمة الحرام السياسيّ، وليس بمُنزّه عن هذه الإجراءات أي نظام، مهما بلغت درجة تقدّمه وقوّته، وقد يصحّ القول: إنّ العلاقة طرديّة بين مدى قوّة النظام وازدياد تكاليف أمنه وقوائمه.

وليس غريباً أنّك لا تجد نظاماً سياسيّاً يتهاون في وجوده عامداً إلاّ غفلة أو اضطراباً من داخله أو خارجه. والغفلة ناجمة عن: إهمالٍ في تشخيص المخاطر، يسمح بتسلّل الوهن، أو إفراطٍ في تقويم المخاطر، يُنهك النظام ويعجِّل بضعفه عبر مخاوف استنزافيّة دونكيشوتيّة.

وأيما إحصاء تاريخي في تقلّبات الأنظمة - والقوية منها - فإنّ الداخلَ كان العامل الأكبر فيها، وكانت العلاقة بين مكوّنات الدولة على درجة من التنافر والتشتّت. فلا وجود لدولة هي عبارة عن كتلة واحدة؛ فكلّ دولة تجمّعٌ متكامل لمكوّنات وأطراف عدّة، وطبيعيّاً أن التنازع بينها يبعدها عن الكيانيّة المتحدة؛ فمثلما حالة التجاذب مسؤولة عن تكامل الكيان فإنّ حالة التنافر سببٌ يدفع كلّ طرف باتّخاذ شكل خاصّ به - هو تصوّر الآخر عنه - ويسعى إلى مضمون مغاير أجبرته إليه الضرورة والظروف: تحت تأثيرات غياب التداوليّات والإصلاحات السياسيّة القادرة على تمكين تجاذب الأطراف وإصلاح تنافرها.

فإذا قلنا: إنّ الحرامَ السياسيّ هو العمل والفعل الممنوع تشريعاً، أو المعتبر ممنوعاً لثغرة في التشريع يسنّها النظام اتّقاءً لما يشخّصه تهديداً لوحدته وقوّته، أيّاً كان هذا العمل: (سياسيّاً، اقتصاديّاً واجتماعيّاً)، وكلّ نظام له حرماته تقديراً لتشخيصاته، وهذه المخاطر الموجبة للاتقاء مختلفة ومتغيّرة، خاصة إن كان نظاماً سياسيّاً مرناً يراقب التحوّلات والتغيّرات.

(ب)

تقع علّة الحرام السياسي في الآخر: المختلف والخارج، وفي طبيعة النظام نفسه، بوصف الأنا مأزومة بالآخر وبنفسها معاً. والإشكال داخل الطبقة السياسيّة والتشريعيّة والتنفيذيّة في ضبطهم للآخر: (المختلف والخارج)، وهو ضبط لا ينفكّ متأثّراً بالأنا (أيْ: طبيعة النظام)، وكيف يكون الداخل خارجاً، والمتشابه مختلفاً؟ إنّها أسئلة المذبح السياسي الوطني لأي نظامٍ. ولا نعرف نظاماً تخفّف من رهبوت هذا المذبح بنسب عالية قدر ما فعلتها الأنظمة الغربيّة، رغم سقوطها في مرّات عديدة في رُهاب الشيوعيّة وفوبيا القاعدة - الإسلامويّة.

وعلينا التفريق بين الآخر الذي يهدِّد النظام ومشروعيّة إلحاقه في الحرام السياسي واعتباره (عدوًّا)؛ فما يهدّد النظام يهدّد مكوّناته، وبين الآخر الذي يهدّد أو يُعارض السلطة واعتباره (خصماً)؛ فمعارضة السلطة مدنيّاً تأتي في سياق حماية النظام ومكوّناته؛ فالخلاف مع السلطة لا يعني خلافاً مع النظام، كما أنّ مناقشة تشريعات النظام بين إلغاء تشريع أو سنّ آخر تدرج ضمن نطاق الإصلاح أو الإخفاق وليست عداء أو اعتداءً.

إذاً، المعيار الضابط لتصنيف المشروع السياسي من حرامه مرتبط بمدى كونه يهدّد النظام السياسي وليس الحكومة/ السلطة، وفي أي نظام شمولي لا يشرعن المعارضة فإنّ على المعارضة العمل مع النظام ومن داخله لأجل إزالة التعارض الناجم عن الخلط بين النظام والسلطة، والإصرار على أنها جزءٌ من النظام، وأنّ معارضتها وخصومتها للسلطة وليس للنظام.

وهذا مدخل لأزمة المعارضة العربيّة؛ حيث إنّ الأنظمة العربيّة تعتبرها حراماً سياسيّاً إلى جانب حرمات أخرى، وبنسبة متفاوتة بين نظام وآخر: (ضبط الدساتير، تعدُّد الأديان، التنازل عن القومية العربية، إسرائيل، إيران، الديمقراطية العلمانيّة، المظاهرات، الاعتصامات، النقابات، الأحزاب). ولأنّ الأنظمة العربيّة جميعها متماهيّة مع الحكومة فإنّها تخلط بين العدّو والخصم، فتدرج أي حركة معارضة في مفهوم العدو. من هنا فإن أي عمل سياسي لا يلتفتُ إلى هذا الخلط فإنّه غير قادر على إنجاز نتائج إصلاحيّة دون تصادم لا-سلميّ. أمّا العمل ضمن المساحة الضيّقة التي يتيحها النظام فإنّ السياسة قادرة أن تجدَ منفذاً تعبر منه سلميًّا ومدنيًّا، وتفاوض على اتّساعه حقوقيّاً ونظاميّاً. وأوّل موجبات العمل السياسي هو التفاوض على إزالة مفهوم المعارضة من قائمة الحرمات السياسيّة، ونقله إلى تشريعات الدستور، وذلك لا ينضج بتفاوض مبتورٍ لا تُرافقه مساعٍ تمهيديّة لبيئة سياسيّة تستوعب تداوليّة التنفيذ بين (الحكومة والمعارضة) على أنّهما جزءٌ من النظام.

وعودة إلى النظام والحكومة وضرورة التفريق بينهما، إذ لا يصحّ الجمع بينهما قراءة وتحليلاً، وإن كانا متّصلين؛ فأنت ترى الدولة عبر دستورها ونظامها السياسي بغضّ النظر عن تطبيقاته، التي هي من مسؤوليّات الحكومة. ولأنّ النظام مختلفٌ عن الحكومة مهما اتّصلت به فإنّك تجد العديد من الحكومات الاستبداديّة تضطرّ للالتفاف عليه أو تجاوزه، وفي المقابل أيضاً، يمكن من خلاله إيجاد فسحة للعمل السياسي، وإن لم يرخّص صراحة للمعارضة التداوليّة.

(ج)

ما هي المعارضة؟ لماذا هي حرام سياسيّ؟ ولماذا لم تقدر المعارضة العربيّة على أن تكون خصماً سلميّاً؟ ولماذا تورّطت بعض حركات المعارضة في السريّة والعنف والاضطرار للتعامل مع أطراف خارجيّة؟ ولماذا تورّطت بالاستبداد حال استلامها السلطة؟ الأسئلة كثيرة، وليس محلّ هذا المقال مناقشتها جميعها، على الرغم من طموحه التنظيري والواقعي في ضرورة مناقشة كلّ ما يتعلّق بمصطلح المعارضة، وما ينطوي عليه من مفاهيم متعدّدة تبعاً لاختلاف المنظومة السياسيّة المؤثّرة؛ لأنّ الربيع العربي والمنطقة بأثرها تحتاج إلى إعادة النظر في أعمال المعارضة جنباً إلى جنب بأعمال الحكومات وهندسة التشريعات الدستوريّة.

يعود الاختلاف داخل الفضاء الجدلي لمصطلح المعارضة بين منظومتين مغايرتين: منظومة غربيّة وأخرى عربيّة. وكما وضّحت سابقاً أنّ المصطلح يتأثّر في نشأته وتداوله بمنظومة مؤثّرة، كالخزن المعرفي والظرفيّة والنوايا ومرجعيّات فواعل المصطلح الجدلي. وما يستدعي الوقوف أن غاية (المعارضة) ووظيفتها تختلف تأثّراً بالأنظمة السياسيّة:

فالمعارضة في الأنظمة التداوليّة العموميّة جزء مكمّل وتداولي في النظام السياسي، وليست حراماً سياسيّاً، كما أنّ وجودها مشرعن مثل وجود الحكومة نفسه. فإن كانت هذه الأنظمة تفصل بين السلطات الثلاث: (التشريعيّة، التنفيذيّة والقضائيّة) فإنّ المعارضة السياسيّة تمثّل رقابة على برامج الحكومة ومدى فاعليتها ونفعيتها للصالح العام، ومدى توافقها مع النظام السياسي، أو ما يُعرف بحكومة الظلّ. وهذه المعارضة محكومة بشروط وضوابط تجعل من أعمالها في صالح النظام والمواطنين، وينصبّ حرصها على عدم ارتكاب أي حرام سياسي كإدخال البلاد في اضطرابات سياسيّة. بينما أي حركة سياسيّة تمارس العنف والعمل المسلّح والتخوين والتصفية فإنّها تخرج عن شرعيّة النظام، وتتجاوز مفهوم الحكومة والمعارضة معاً، وتدرج ضمن العدو السياسي الداخلي.

أمّا المعارضة في الأنظمة الشموليّة والأحاديّة فإنّها حرامٌ سياسيٌ، فليس لها وجود تشريعي كمؤسّسة تقابليّة للحكومة، ولعلّ حالة عدم الفصل بين النظام السياسي والحكومة سببٌ في عدم شرعنة المعارضة. فإلى أي مدى تتحمّل حالة غياب تشريع المعارضة السياسية المدنيّة مسؤوليّة باتجاه نشوء حركات سريّة، ما كانت لتظهر إن شُرّعت المعارضة المدنيّة؟! فليس مصادفة كثرتها في الأنظمة الشموليّة مقارنة بالأنظمة التداوليّة، لطالما أنّ مفهوم المعارضة المدنيّة ساقطٌ في مفهوم العداوة لدى كلا الطرفين: السلطة والمعارضين.

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة