Culture Magazine Saturday  05/10/2013 G Issue 414
فضاءات
السبت 29 ,ذو القعدة 1434   العدد  414
 
في الأدب ودرسه(6)
الحرية في حالة ممارسة
د. حسين الواد

 

إذا كان الأدب مثلما يتجسّم في الأعمال الأدبية يختصّ من بين ما يختصّ به بامتناعه عن « التعريف» الذي يحوزه ويميّزه عمّا يشتبه به من سائر أجناس الكلام وسائر النشاطات الفنية تبعًا لاشتراكه معها في بعض الخصائص الثانوية، فكلما وضع العلماء والباحثون له تعريفا ألفوا قسما وافرًا من الأعمال التي عدّت ذات يوم أو تعدّ على امتداد الأزمان، منه لا تستجيب إلى الامتثال له حتى انتهى بعضهم إلى الإقرار بأنه «ممّا يُعرَف ولا يُعرّف» فإن النتيجة التي ترتبت على ذلك قد تمثلت في أنه، في حقيقة المفهوم الذي يتلاءم معه انفتاح دائم من الماضي على المستقبل، ومن الموجود على المنشود بفضل ما يتيحه ذلك من إمكان استقباله لما قد يحدث من نصوص قابلة لأن تدخل فيه.

وإذا كان الأدب لا يختصّ لا بالموضوعات التي يعالجها فجميعُ ما في العالم والوجود قابلٌ لأن يكون موضوعا للكتابة الأدبية، ولا بما يعرضه على القراء من صنوف الفوائد المعرفية وألوان المتعة لأن سواه من النشاطات الفكرية البشرية أقدر، ما في هذا من شك، على الاضطلاع بذلك، وعلى نحو أفضل منه وأشدّ تأثيرا في الواقع، ولأن المتعة التي يتيحها إنما هي متعة مشتركة مع التي تتيحها فنون أخرى كثيرة، فإن الطريق إلى خصوصيته الخاصّة والمفردة له كائنا قائم الذات مستقلا تبدو متمثلة في مواجهته للنظام اللغوي بالتدارك والمحاورة وهو ما يتجسم، على وجهه الأبرز في الشعر، وفي كونه مجالا لممارسة الحرية في حدها الأقصى، وهو ما يتجسم على نحو واضح، في الأعمال السردية.

يمكن أن نضيف إلى هذا كله أن الأعمال الأدبية نفسها قد امتنعت عند درسها عن الخضوع خضوعا كليًّا إلى النظريات والمناهج التي استعملت في قراءتها، فهذه النظريات لم تحصل منها إلا على جانب أقامت عليه كيانها دون جوانب أخرى اعتمدتها أو لم تعتمدها بعدُ نظريات أخرى، وتلك المناهج لم تظفر إلا بما كانت تطلبه منه، وكان يجود به عليها بسخاء دون أن يستنفد ذلك ما يزخر به من كثير الفوائد، ومن هنا كانت النظريات والمناهج لا يلغي بعضُها بعضًا من ناحية ولا تأتي من ناحية ثانية، على ما في الأعمال الأدبية التي تدرسها من الفوائد المقدرة فيها، وهذا يسلم إلى الإقرار بأن قراءة الأعمال الأدبية عمل حرّ في حدّ ذاته، بل إن مدى الحرية فيه شاسع إلى الحدّ الذي لا يمكن فيه لأيّ كان أن يتكهن بالسرّ الذي يدفع المجتمعات إلى أن تصرّف في شؤونها هذا النوعَ من مقدّرات الأعمال الأدبية أوذاك مستعملة هذا المنحى في القراءة أو ذلك، والمتواتر في تواريخ الآداب والقراءات أن بعض الأعمال تظل أزمانا طويلة أحيانا، متروكة مهملة إلى أن يحدث ما يدعو إلى الإقبال عليها أو إلى تغيير أنماط التعامل معها وغاياته.

ومهما حاولت بعض القوى عن طريق أجهزتها الإيديولوجية المختلفة أن تضع يدها على الأعمال الأدبية سواء بالعمل على تتويج بعض منها نماذج أو تعهّد نوع من أنواع استعمالها بالدعاية، كانت النتائج خسرانا ظاهرا، ذلك أن تمسّك الأعمال الأدبية باستقلالها منغرس في طبيعتها وامتناعها عن الخضوع لأي سلطان مكوّن أساسي لسمة من سماتها الخاصة، وقد بات معروفا أن صفة الأدبية لا تسندُ أو تنتزعُ بمرسوم من المراسيم ومن أي سلطة كانت.

عن جميع هذا الذي نذكـّر به ينتج أن العمل الأدبي عمل حرّ لأنه أحد المجالات التي يمكن أن تمارس فيها الحرية في أوسع معانيها، غير أن ممارسة هذه الحرية، لتكون مناسبة لطبيعتها الحرة، تمتنع هي أيضا، عن أن تفرضَ نفسَها بادّعاء النفع أو الصّدع بالحقيقة التي لا تقبل التثبت منها أو بالنزوع إلى أيّ إملاء من الإملاءات، معنى هذا أن العمل الأدبي يقفُ عند الإيحاء باحتمالات وممكنات أخرى تخرج عن نطاق ما خبرت البشرية وعرفته واطمأنت إليه، إنها احتمالات لم تنتقل من حيز الإمكان إلى حيز التطبيق، وقد لا تنتقل إلى ذلك أبدا، ولكن الإبقاء عليها في موطن البدائل والاحتمالات هو الذي يحتاج إلى الصّون والاعتراف، وحتى تقترب هذه الفكرة من الأذهان نمثل لها بالضرورة في الشعر القديم فكبار الشعراء لا يعجزهم تجنبها ولكنهم يقبلون عليها حتى يبقى الاستئناس بقبولها قائما في الإمكان فإذا ما جاءت الحاجة الماسة إليها لم تقابل بالإنكار والتشهير.

على هذا النحو تكون ظاهرة الانفتاح في المفهوم والموضوعات، في طرائق الصياغة وأنماط القراءة، منسجمة مع الوظيفة التي إن اشترك الأدب مع سواه من أجناس الخطاب والنشاطات الفنية أو استبد بها دونها وانفرد (كالمواجهة للنظام الرمزي مجسما في النظام اللغوي أو التحرر الكامل من ضوابط الجنس كما في السرد) من خالص مقوّماته هذه الوظيفة هي الحرية في حالة ممارسة فعلية.

نتيجة هذا أن الحرية الكامنة في عملية الإبداع تبدو منسجمة مع الحرية في عملية التلقي وفي الاعتراف بالقيمة أو نفيها. فالأدباء يضعون أعمالهم الأدبية ويعرضونها على الجمهور القارئ، ولهذا الجمهور أن يتخذ منها الموقف الذي يراه مناسبا علما أنه لا سبيل البتة، للتكهن به، وفي التاريخ أمثلة كثيرة على التشويش على القراء في المقاييس التي يأخذون بها حتى كانوا يجدون أنفسهم محمولين على منح بعض الأعمال تحت ضغط عوامل متنوعة لا علاقة لها بالأدب قيمة عالية، غير أنهم كانوا سرعان ما يعودون إلى رشدهم الأدبي ليسحبوا ما كانوا قد منحوه إياها دون استحقاق، والمعروف أن هذه الظاهرة أصبح لها من جراء تفاقم سلطان وسائل الدعاية والإشهار، طغيان كبيرحتى إن النجومية صارت تصنع صنعاً، وحالما يفطن الناس إلى أن تلك القيمة التي منحوا غير مستحقة نسوا، في أوقات قياسية الذين صنعوها الذين صنعت لهم، على أن الجمهور المتلقي قد لا يمنح أيضا، لأسباب متعددة بعض الأعمال أيّ قيمة حتى إذا جاء زمن آخركان التفطن إلى ما لم يره فيها السابقون، وكان لها الاعتراف بما حُرمت منه، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن الجمهور في هذه الحالة الثانية قد وقع في الخطأ فمفهوم الخطأ والصواب مما لا يعتدّ به هنا، ذلك أن للمسألة بعدا آخر مختلفا سبق أن وصلناه بأن في الأعمال الأدبية طاقة مقدّرة يمكن لأيّ مجتمع في أيّ حال من الأحوال أن يسحب منها ما يحتاج إلى تصريفه كلما دعته إلى ذلك حاجة من الحاجات غير المحددة وغير القابلة للتحديد، وهذا يعني أن الأعمال الأدبية القيّمة التي تسقط من التداول لا تفقد صفة الأدبية فيها، وإنما تبقى موجودة كالمعدومة إلى أن تتيح لها ظروفٌ جديدة سبيل التداول من جديد لكن على نمط آخر مختلف عن الأنماط السابقة.

- تونس

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة