Culture Magazine Saturday  05/10/2013 G Issue 414
مداخلات
السبت 29 ,ذو القعدة 1434   العدد  414
 
ردّا على تحليل ابن عقيل لقصيدتي رسالة إلى القصيمي
لم أكن مادحًا ولا ذامًا بل راثيًا لحاله حزينًا عليه
سليمان عبد العزيز العتيق

 

أبوعبد الرحمن ابن عقيل قامة ثقافية عملاقة، ورائد من رواد ثقافتنا الحديثة، وذلك بحضوره الدائم في المشهد الثقافي، وبما يمتلكه من سعة اطلاع، وموسوعية مستوعبة لكل مناحي الثقافة والأدب.

كتب هذا الرجل قبل أكثر من ثلاثة أشهر، تحليلاً لقصيدتي (رسالة إلى عبدالله القصيمي)المنشورة بالثقافية ملحق جريدة الجزيرة الصادرة في 30 - 12 -1433هـ.. ووعد بأن ما كتبه هو حلقة أولى سيتبعه بحلقتين أخريين، تحت عنوان

(أحاسيس متدفقة غير مضطربة) غير أني حتى الآن لم أقرأ سوى الحلقة الأولى، وكان بودي ألا أكتب عن ذلك حتى تكتمل الحلقات الثلاث، ولكن نظراً لطول مدة الانتظار فقد قدرت أن أبا عبد الرحمن قد يكون صرف النظر عن هذا الموضوع إلى ما هو أهم منه، فكتبت هذا الذي بين أيديكم عن تلك الحلقة الأولى.

وابتداء أقول : إن مجرد وقوف ابن عقيل على هذه القصيدة واهتمامه بها، هو مكسب أحسبها قد حققته، مهما كان نقده قاسياً وقويا، لها ولمحتواها.

وإنني هنا، وفي ردي على ملاحظات أبي عبد الرحمن، لا أقف أمامه نداً ولا خصماً، فبضاعتي تقصر عن ذلك ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، لكنني ومع هذا، إنما أردت بهذا الرد، أن أوضح بعض اللبس الذي بنى عليه أبو عبد الرحمن أحكاماً،لا أعتبرها إلا توجيهات وإضاءات عسى أن أستفيد منها، مهما اختلفت معها، وإنما جاء الإيضاح مني باعتباري الشاعر الذي في بطنه المعنى كما يقال، إن كان هذا يشفع لي.

في هذه الحلقة الأولى من التحليل والمنشورة بالجزيرة في 16 - 8 - 1433هـ يأخذ علي أبو عبد الرحمن أنني حشدت ألفاظاً في مدخل القصيدة لتوصيف حالة القصيمي، لا توحي بحال الرجل ولا تناسب الشعر ذاته، مثل هوى وجوى ونشيج وصياح ودموع وريح وأعاصير وذئب بين جنبيه قد عوى. غير أني يا أبا عبدالرحمن، أرى أن حشد هذه التعابير الثقيلة، بصخبها وعنفوانها هو التصوير الأقرب لحالة الرجل وما يعيشه من توتر وهياج وخصومة واحتجاج على كل شيء ومع كل شيء، لم نقرأ كاتباً في كل ما قرأنا شعراً أو نثراً تاريخاً أو فلسفة من هو أشد من القصيمي، هياجاً وصخباً وعنفاً، تجاوز كل الحدود وخرج عن المألوف كله، إن عنف زكي مبارك لا يعد بجانب القصيمي إلا تسامحاً وخطاباً مترفقاً، بل وحتى نيتشه الذي هز الثقافة الغربية كلها بعنفه ورفضه وثورته، لا يقاس بالقصيمي ولا يداني صلفه وتوتره وهياجه الذي يشعرك وأنت تقرأه وكأنه سوف يخرج عليك من خلال الورق. إن رجلاًً بمثل هذا العنف والتوتر يحشد هذا الكم الهائل من المترادفات العنيفة، في كل موضوع يطرقه، لا يخاطب ولا توصف حالته برقيق العبارات ونواعم الكلم. بل إن الأعاصير والعواصف والصياح والنشيج قليلة برسم صورته وإيضاح حالته. وأنا أجهل سلوك الرجل وليس لي معرفة بشخصه، ولا يهمني ذلك ولا أنشغل به، لأن قصيدتي ليست في مضامينها وغايتها موجهة إلى شخص القصيمي - الذي أفضى إلى ربه - بل هي رسالة موجهة إلى الفكرة التي تمثلت بالرجل من خلال ما كتب، إن ما أردت الوقوف عنده هو هذه الهوة السحيقة التي تردى القصيمي في ظلمتها. وهذا العنف وهذا الصلف الذي يشعرك وأنت تقرأ مترادفاته الصاخبة، بقدر هائل من الإحباط والضيق، يسكن هذه النفس المتمردة التي لم توفر كبيرا كريماً أو صغيراً مستهجناً، عن أن تجتاحه وتنقض عليه محطمة في سبيل تحقيره وتقزيمه، كل معاني الحكمة والروية وحسن الخطاب. إن هذا الهياج والصلف الذي تجده في كل كتاب بل في كل صفحة مما كتب القصيمي - على غزارة ماكتب _ يجعل صورته في نظري، لا يعبر عنها إلا الأعاصير والهياج والهوى والذئب الذي بين جنبيه قد عوى. وأبو عبد الرحمن - عفا الله عنه - يقول عن هذا الخلي كلاماً يلتقي مع ماقلته عنه بكثير من التطابق، في كتابه (ليلة في قاردن سيتي) حيث يقول في الصفحة الثامنة عشرة (فهو يريد - يعني القصيمي - العقل صراعاً مع الأفكار المتوحشة نواجهها ونتحداها كما نفعل بالطبيعة الموحشة !!). ويقول أيضاً في الكتاب نفسه ص 50 (وبما أن القصيمي غير مخلص للفكر أصبحت مؤلفاته عويلاً وصراخاً يتناوح على هامش القضايا دون أن يضرب في صميمها). فلماذا يا أبا عبد الرحمن تنكر علينا ما سبقتنا إليه جزاك الله خيراً ثم تأتي ملاحظة الشيخ عفا الله عنه، حول الهوى والجوى التي حصر معناها بتعلق الرجل بامرأة يتعشقها، ليقول لنا إن القصيمي وبحسب معرفته به ومعايشته له لعدة أشهر، هو بعيد باهتماماته كل البعد عن العشق وجواه وتهويماته، والذي أعرفه بداية أن العشق كما يقع بالتعلق بامرأة يقع كذلك بالهيام بفكرة أو بعلم أو بمجد أو بوجاهة أو بموطن أو حزب وجماعة، عجبت كيف أن شيخنا لم يجد تفسيراً لهذا الجوى الذي ذكرته سوى (هات عينيك تسرح في دنيتهم عيني) ذلك لأن الجوى في معناه لا يعني العشق وحده، بل هو حسب القاموس يعني، الحزن والحرقة والمرض والكره وشدة الوجد. لأن الجوى في معناه لا يعني العشق وحده، بل هو حسب القاموس يعني، الحزن والحرقة والمرض والكره وشدة الوجد. كما أنه يعني حب امرأة، إلا أن كونه يعني التعلق بامرأة - وإن كان أشهر معاني هذا الجوى وأكثرها تداولاً - إلا أنه أضعفها وأقلها ثباتا وأسرعها تلاشيا، وكما قال الطنطاوي- يرحمه الله-، لو أن قيساً تزوج ليلى لما سمعنا هذا الشعر الجميل. بينما تعشق المجد والفكر والشهرة والتطلعات المعنوية والأشواق الروحية، كما نراها عند ابن الفارض وجلال الدين الرومي في الروحانيات، ونجدها عند الكثيرين في عوالم السياسة والفكر، هذا الصنف من العشق كلما تلبس صاحبه به، وحقق قرباً منه، وتمثلا لمعانيه، كلما تجذر في النفس واشتد الهيام به، خلاف حب النساء كما أسلفنا. وعليه فإنك لتجد القصيمي وهو يستغرق بالكتابة عن موضوع ما، يتمثل هذا العشق المعنوي بكل جلاء ووضوح، حينما تجده ينصهر ويتلاشى في تلافيف ذلك الموضوع، بحالة أشبه ماتكون بالهيام وغيبوبة الوجد المستولي، الذي يفقده السيطرة على جموح قلمه وتجاوزاته، تاركا لنفسه ولدوافعه وتصوراته، أن تنطلق على الورق بلا قيود أو حدود، فالتعشق للفكرة والهيام والافتتان بها يجعل تعابير مثل الهوى والجوى، لا تتجافى مع حالة هذا الرجل. (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) نسأل الله ألا يعلق قلوبنا إلا بالإيمان به وبشكره وذكره وحسن عبادته .

ثم إنني أرى أن حالة القصيمي، هي سقوط وإفلاس يدعو للرثاء أكثر مما يدعو للذم والمواجهة، ذلك أن الرجل وأنت تقرأه تجده متهالكاً متفانياً، في سبيل تحطيم كل شيء وكل معنى، بلا استثناء، فهو يهجو الشمس والطبيعة والتاريخ والقيم، ومع هذا كله، لا تجد لديه أي مشروع بديل ولا رؤية ولا توجه بناء، فهذه النقمة وهذا الحقد، المنصب على كل أشياء الحياة والكون والوجود، تبرز كم يعاني هذا الرجل بخروجه من حضيرة الإيمان والذكر والصلاة، من تمزق وضياع وإحباط وخيبات أمل، وكل هذا يمثل أزمة وجود، تجسد مأساة يرثى لها ويحزن على صاحبها. وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وهو يتألم لضلال الضالين، والقرآن يدعوه ليخفف من هذا التألم (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وفي آية أخرى (ولا تحزن عليهم) لنا بذلك مثل وقدوة، ومقام النبوة أشرف وأعظم.

وعليه فإن الشيخ ابن عقيل عندما استهجن توصيفاتي للقصيمي، مشيرا إلى أنها جاءت على لغة بشار في ليت عينيه سواء، فلا هي كما يرى مدح ولا ذم، يحق لي ــ وبناءً على ماتقدم ــ أن أقول هنا أنني لم أكن مادحاً ولا ذاماً في موضوع قصيدتي، وإنما كنت راثيا لحال الرجل وحال من يقتدي به ويتبعه، و كنت حزيناً مشفقاً على مآله. أحسن الله لنا ولكم الخاتمة.

هكذا أرى وهكذا أوضح زاويتي التي تناولت من خلاها الموضوع، ككاتب للنص يفضي بما يعتمل بداخله متكئا على مقولة (المعنى في بطن الشاعر)، الذي هو أولى من غيره بالتفسير والإيضاح.

ثم يأتي ابو عبدالرحمن إلى المقطع الثاني نافيا أن ليس عند القصيمي، شيء مما أشارت إليه القصيدة، في هذا المقطع، فيما قد يعبر عنه بالدموع والجراح والسهاد مما ينوء به الرجل ومما يعانيه.

كيف يكون ذلك يا أبا عبدالرحمن، وهو الذي يقول في عاشق لعار التاريخ، كمدخل لفصل، عيناي ليستا حجراً (إني أنقد لأني أبكي وأتعذب، لا لأني أكره أو أعادي) ويقول (إني أنقد الحياة لأني أعيشها بمعاناة، بتفاهة، بلا شروط، بلا اقتناع، بلا نظرية). فعندما نتفق على أننا لكي نحكم على الرجل، ولكي نختار المعاني التي نصدر بها أحكامنا عليه، فعلينا أن نرجع إلى أقواله التي صدرت عنه، فما خطه بيمينه، مختارا وبكامل إرادته، هو مرجعنا في ذلك، فالدموع والجروح والسهاد هي المعاني التي تعبر عن القصيمي وتصف حالته كما هي.

وأخيراً مع شكري وامتناني لشيخنا ومفكرنا الكبير أبي عبدالرحمن، آمل وأتطلع أن أقرأ الحلقتين الموعودتين، وأنتم بخير وعافية.

تويتر: solimanalateeq@ - حائل

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة