Saturday 07/12/2013 Issue 420 السبت 3 ,صفر 1435 العدد

في التجربة التونسية

في لقاء استضافه مركز التحولات الدستورية في العالم التابع لكلية القانون في جامعة نيويورك «NYU Constitutional Transitions» قدم الرئيس التونسي المنصف المرزوقي محاضرة عن ماضي وحاضر ومستقبل الربيع العربي.

في ردهات تلك القاعة التي ألقى المرزوقي فيها محاضرته رأيت الوجوه الشابة العربية من تونس واليمن وغيرهما والتي عبّرت عن ذلك الحلم العربي المشترك في العيش الحر الكريم ومكافحة الفساد والاستبداد ورفض الظلم والتبعية كأحلام على هامش محاضرة الرئيس المنتخب لأول دولة أشرق منها الربيع العربي المجيد «تونس».

تحدث المرزوقي عن الربيع العربي وبالخصوص عن تجربة تونس وشدني في حديثه طرحه لفكرة تميز التجربة التونسية في عدة جوانب. المرزوقي أشار إلى أن الثورات قد تستفز الثورات المضادة وقد لايكون أكثر المستفيدين منها منشئوها، وأن كل ثورة لها ثمن.. كل هذا ليقول بأن الثورة ليست عملية حتمية تاريخياً وليست مرغوبة لذاتها.. ولكنها قد تصبح ضرورة حيال انسداد كل آفاق الإصلاح، وحتى في ذالك الحين فالثورة قد تأخذ مسارات متعددة وقد لاتهدد كل المؤسسات السياسية.

شدّني في حكاية التجربة التونسية..أنها فضّلت التوافق كقاعدة مهمة للسياسة وهو الشيء الذي طبع الحالة السياسية منذ البداية تقريباً..فهي تقوم في مرحلتها الانتقالية المنتخبة على «ائتلاف حاكم/ Coalition» وليس حزب حاكم «ruling party» وهذا يعني أن المشاركة السياسية اتسعت لفرقاء سياسيين وبالتالي سيعتبر هؤلاء الفرقاء جميعاً أن مصلحة نجاح الحكومة للجميع وأيضاً سينجح بالضرورة العملية الانتقالية. وهذا يعني أيضاً أن الخصومة السياسية مع ائتلاف أصعب بمراحل كثيرة من الخصومة مع حزب واحد يسهل التهامه وتحجيمه في اي لحظة تاريخية ما. وأيضا فحتى هذا الائتلاف ليس ائتلاف إسلاميين ضد علمانيين بل ائتلاف فرقاء سياسيين من إسلاميين وعلمانيين وليبراليين، وهذا يعني أن الخصومة السياسية لن تبدو لأي أحد كموضوع ديني أو إسلامي ضد علماني أو خلاف إيدلوجي حاد يستخدم فيه الفرقاء الاختصام الإيدلوجي بأسلحته التقليدية في التخوين والتبديع .. إلخ، وأيضاً سيجعل العمل السياسي والتعامل السياسي الصرف هو سبيل الفرقاء في الغالب. ميزة أخرى بالتجربة التونسية، إنها رغم أنها ورثت قضاءً وأمناً فلولياً إلا أنها فضّلت عدم التصارع معه بل تركه للتطور الطبيعي حفاظاً على استقلال القضاء وتطور التفكير الأمني بمايخدم الناس والشعب وليس الفئة الحاكمة.

كانت الثورة التونسية في تلك اللحظة أمام خيارين صعبين: إما تبني بعض أهداف الثورة في تجديد القضاء و»تخليصه» من رواسب العهد الأمني الذي بناه خلال عقود طويلة من القمع والاستبداد..ولكن هذا الخيار يعني أيضاً هزّ بعض قواعد الديمقراطية في احترام استقلال القضاء وعدم التدخل فيه والعبث في إجراءاته (وهو السلوك الذي كانت ترفضه الثورة أيضاً).. وبين الخيار الثاني الذي يعني احترام القضاء رغم إشكالياته وتنفذ الفلول فيه ..والعمل على موضوع بناء جيل قضائي يأخذ وقتاً ليستوعب أهداف الثورة في احترام خيارات الشعوب والعمل على الحفاظ عليها.. فكان أن اتخذت التجربة التونسية المسار الثاني على طول الأمد فيه. وحتى هذا المسار الثاني يعني الأخذ بعين الاعتبار خطورة القضاء في تقويض بعض النجاح الانتقالي نحو الديمقراطية.. فكان أسلم الطرق هو محاولة إدارج القضاء في عجلة البناء الديمقراطي واحتوائه وعدم التصارع والاختصام معه بل احترام إرادته واستقلاله. وإذا نظرنا إلى موضوع استقلال القضاء واحترامه واحترام نتائجه فإن هذا ليس نجاحاً للثورة والشعب بل وأيضاً دعماً للتوازن السياسي حتى لا يستبد أي طرف مهما كان منتخباً وشرعياً بالمجال السياسي، ولكي يمنع وجود أي استبداد مستقبلي في بلد حديث العهد بالانتخاب الحر والتنافس الحقيقي، فالقضاء مهما كان هو عنصر توازن مهم في المجتمع السياسي.

والميزة الأخيرة امتداد للحديث عن علاقة الثورة بماقبلها في تجربة الثورة التونسية هو أنها كانت بين خيارين مهمين أيضاً: الأول المحاسبة الكاملة مع كل رموز الفساد في السابق، وهذا ماكان من أهداف الثورة ولكن هذا يعني توسيع رقعة الخصوم وانشغال العمل السياسي بالبحث عن الخصوم عوضاً عن إنجاح العمل الانتقالي.. والخيار الآخر كان في ألا تنشغل بما يسمى «الانتقام السياسي» وتصفية الحسابات إلا مع من تورط بشكل مباشر في جريمة مدانة..فكان جدلها في الغالب على بناء الدولة والدستور ولأجل ذلك كانت فكرة التنازل السياسي الحزبي لأجل مصلحة النجاح العام ليس فقط نجاحاً للناس بل ايضاً رفعاً لأسهم هؤلاء المتنازلين عند الشعب وعملاً سياسياً يكسب به الشارع على المدى البعيد.

تونس هذا البلد الذي ألهم الربيع العربي وأطلق أول صرخة فيه وأمله الصاعد..بقي يحمل هذا الأمل بذكاء ولايزال يلهم الجميع. تجربته الثر ية مجالٌ للنقد والرأي والملاحظة ولكنها بالميزات السابقة رغم صعوبتها وشهدائها وتحدياتها.. الأقلّ خسارة في البناء الديمقراطي ولانزال جميعاً ننظر للانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي الأخرى بأملٍ ودعاء.

- عبدالله العودة abdalodah@gmail.com