Saturday 07/12/2013 Issue 420 السبت 3 ,صفر 1435 العدد
07/12/2013

معركة الأفكار وقوى العالم (1-2)

خرج الرجل الأيديولوجي حتى النخاع من الاجتماع وهو منهار المعنويات، بعد أن كان قد دخل إلى القاعة وهو مفعم بالنشاط؛ فقد أخذ يتمتم: لم تعد الدنيا هي الدنيا.. من يصدق أن القوى الكبرى التي كانت تدعم حركات التحرر وحق الشعوب في المطالبة بحكم أنفسها، وأصبحت عنواناً للضعفاء يلجأون إليها لتقارع كبار التكتلات البرجوازية في العالم؛ هي الآن من يتزعم التخلي عن حقوق الشعوب، وتمالئ أصحاب مراكز القوى من أجل المصالح الاقتصادية؟ فهل هو مصدوم بتغيرات حدثت لتلك القوى؟ أم إنه كان مغرراً به من خلال صور توضع عن هذه القوة أو تلك؛ بينما جميعها في الواقع لا يرغب إلا في الحصول على موقع الصدارة من المساعي الاقتصادية والسياسية والعسكرية؟

لن نكون مبالغين إذا قلنا، بأن التاريخ البشري وحضاراته التي نشأت فيه لا تعدو أن تكون سجلاً لمعارك الأفكار، والصراعات التي تجري بين التيارات الفكرية المتنافسة. وقد خلص كثير من الدارسين إلى أن كل فكرة تنتصر تقود التيار المؤسس لها إلى السيادة، وقطف ثمار الانتصار سياسياً، وربما عسكرياً، واقتصادياً. وبالمقابل تقود القوى المسيطرة حروب أفكار تزيل عن الواجهة أحياناً المبادئ، التي تكونت على أساسها تلك القوى، وتصبح أسيرة لنصرة هذا الصراع الفكري مع القوى الأخرى. بل إن بعض المراكز الفكرية أصبحت تقر بأن العصر لم يعد الصراع فيه بين المبادئ المتناحرة، وإنما بين الأفكار بمحتوياتها العلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وما ينتج عن ذلك من تكتلات لأصحاب الأفكار المتآلفة أو المتكاملة بعضها مع بعض.

نشأت تلك الحالات في كل أوضاع التجمعات البشرية البدائية، وكذلك في المراحل المتقدمة من حياة المجتمعات التي نقل التاريخ أوضاعها إلينا بلا استثناء، وهي بالطبع سمة بشرية عامة؛ فلا شك أنها تكون قد وجدت أيضاً في مجتمعات ما قبل التاريخ. فالصينيون والهنود واليونان والرومان والعرب والأتراك مروا بمثل هذه الصراعات الفكرية، وسيطرت القوى التي تدعم الفكرة المنتصرة، مما يشهد به تاريخ تلك الممالك. كما ثبت أيضاً أن كل فريق يمتلك زمام القوة تشيع أفكاره ورؤيته للعالم؛ سواء كانت مبنية على عقيدة دينية، أو عرقية، أو مذهب سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. ففي حقبة ما قبل الميلاد كانت ممالك الرافدين من الشرق، وممالك الساميين في الشمال الغربي ومناطق غرب المتوسط، والممالك المصرية على النيل تصدر الأفكار إلى بقية بقاع الأرض، وتنشر ثقافتها المرتبطة بأفكار مقولبة محلياً، أو معدلة من الموروث العالمي. أما في القرون الميلادية الأولى فكانت السيادة كما هو معلوم للأفكار التي أنتجتها بيئات المجد السياسي والعسكري، وما يتبعهما من ازدهار اقتصادي، في كل من روما وفارس؛ حيث تحولت صيغ الحياة اللاتينية والفارسية إلى نماذج كونية تصدرها الدولتان في كل اتجاه تسيطر عليه. ثم سيطرت أفكار العرب بثقافتهم والدين الإسلامي الذي نشروه في مناطق العالم القديم آنذاك، لتصطبغ الحياة العلمية والفكرية على وجه الأرض بالطابع العربي، الذي صاحب انتشار أفكارهم وقوتها، وبلغ تأثيرهم لأول مرة قارات العالم القديم (آسيا وأفريقيا وأوربا).

وفي فترة النهضة الأوربية سادت أيضاً في أوربا بعض الأفكار؛ سواء خلال الحقبة الكلاسيكية، حيث احتل النموذج الإغريقي والروماني جوهر الاهتمام، كمثل أعلى يتعين الاقتداء به في كل جهد إنساني، بدءاً من الفلسفة والحث على الفضيلة، ووصولاً إلى الفن والعمارة والشعر؛ وتضمن هذا النهج بدوره افتراض وجود قيم كلية شاملة. وفي الجزء الثاني سنتطرق إلى التحول المتأخر للنماذج الكلاسيكية ونتائجها في صنع التيارات الفكرية الحديثة.

- الرياض