Culture Magazine Thursday  09/05/2013 G Issue 405
فضاءات
الخميس 29 ,جمادى الآخر 1434   العدد  405
 
هكذا كانت حياتي
يوسف عبدالعزيز

 

يُخيّل إليّ أنّ حياتي التي عشتها لم تكن غير إقامة قلقة على فم الزّلزال، وأنّ كلّ ما كتبته لم يكن غير ما يدبّجه المنذور للإعدام من حيل حلميّة لتجاهل لحظة القتل أو نسيانها. في الواقع أنا لم أعش حياتي كما أريد، وبالتّالي فأنا لم أكتب ما كان مفتَرَضاً أن أكتبه! ما حدث معي يشبه تماماً ما يحدث في لعبة كرة القدم، حين يصوّب أحدهم الكرة باتّجاه المرمى، فيتقدّم لاعبٌ من الفريق الآخر ليركلّ الكرة إلى خارج الملعب!

وهكذا كانت حياتي (out)

حياتي كانت مصوّبة إلى ما لستُ أعرفُ،

مفتوناً بتلك الأرض المعجّنة بالأحلام كنتُ أتسلّق تلك الجبال العالية المؤدّية إلى ملعب النّجم، لأطلّ على بحر يافا البعيد. في تلك اللحظة المبكّرة من حبّ فلسطين، فوجئت بمن يركل جسدي الضّئيل، ويطوّح به خارج الوطن. في الواقع لم تركلني قدم جندي، تقدّمت منّي دبابة، وبظلفها المعدني أخرجتني من (الجنة)!

في الشّهور القليلة الماضية تعرّضت لمجموعة من الوقائع المثيرة، وهذا مما أصبح يساهم في تعكير مرآة حياتي، وغمرها بمزيد من الضّباب. لقد حدث وأن التقيت بالعديد من معارفي القدامى الذين افترقت عنهم منذ ما يزيد عن أربعين عاماً. لم نكن نعرف عن ماذا يمكن أن نتحدّث! فما كان يجمعنا من ذكريات ضئيلة وبعيدة، كان يبدو من السّذاجة إلى الحدّ الذي لا يسمح لنا بإقامة حوار حميم، وفي مثل هذه الحالة، كنّا نلوذ بالصّمت الذي تتخلّله بين فترة وأخرى، تلك النّظرات الباهتة الحمقاء. هنا أجدني قد وصلت إلى بيت القصيد، ولا بدّ لي من ذكر الحادثة التّالية:

قبل أيّام التقيت بسيّدة قادمة من (البلاد)، وهذا هو الاسم الذي كنّا نسمّيه عادةً لفلسطين. كانت تبدو في مثل سنّي تقريباً. عرّفت بنفسها، وقالت بصوتها الأخضر المرفرف (اعذروني على هذا الوصف فصوتها هو في الحقيقة هكذا): تَذْكُرني؟ عندها اضطربتُ في وقفتي، وأصابني ما يشبه الغيبوبة. مشاعر من الحب والحنين والغضب والقهر هجمت عليّ دفعةً واحدة. لقد تذكّرت تلك الظّبية النّاحلة بعينيها الزرقاوين، وذنب الفرس وهي تخفق في الرّيح، بينما أنا أتبعها لألمّ صورتها التي وقعت وتكسّرت بين الأشجار وفوق الصّخور. تذكّرت تلك الأيّام التي كانت تأتي فيها مع أهلها من مخيّم الأمعري بجوار رام الله لزيارتنا في عطلات الصّيف، كيف مثّلنا دور العروسين مع مجموعة من الأطفال، وكيف قدتها في إحدى المرّات قريباً من (الشّيك) الذي يفصلنا عن أرض 48، وقلتُ لها انظري إلى ذلك النّسر الأخضر العظيم (وكنت أقصد الحرش الذي يقف أمامنا) إنّه سيطير بعد قليل!

فجأة توقّفت نافورة الذّكريات

فجأة سقطتُ من سماءٍ سابعةٍ وارتطمتُ بالأرض.

لم أسألها عن زوجها، عن أبنائها وبناتها، خاصّةً عن ابنها الذي استشهد في الانتفاضة، فقد قالت بما يشبه انتحار الوردة التي تقفز من يد العاشق لترتطم على الأرض وتتحطّم: غداً سأعود إلى رام الله.

أيّ معنى لهذه الحياة التي تتقطّع؟ التي تتوهّج في لحظة معيّنة مثل نجم، ثمّ فجأة تنطفئ؟ الحياة التي يتداولها الآخرون ويحتكرونها لصالح نزواتهم الخاصّة! انظروا! كان يمكن لي أن أعيش أيّاماً سعيدة مع صاحبة الصّوت الأخضر. كان يمكن لنا أن نذهب سويّاً إلى نُزُلٍ في يافا أو حيفا، ونهجّ في شعاب الماء كسمكتين حرّتين. كان يمكن لنا أن نصل ذروة الحبّ فنمشي على الماء في طبريّا. كان يمكن لذلك كلّه أن يحدث لولا تلك اللعنة التي تمّ اختراعها أواسط القرن العشرين (يا إلهي عفوك ذلك كثير علينا)، والتي سُمّيت (بإسرائيل).

Yousef_7aifa@yahoo.com فلسطين

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة