Saturday 09/11/2013 Issue 416 السبت 6 ,محرم 1435 العدد

الإصلاح المتخيل

عبدالله العودة

يتحدث المؤرخ الفرنسي دي توكفيل كيف أن إرساء قيم الإصلاح ودعمها في أي مجتمع وفتح مجال الحوار والجدل حولها يعني أن المجتمع يصبح يرى قضية الإصلاح الذي يتنظره كمعيار اجتماعي لاشعوري للنجاح والفشل.. ويعتبر موضوع الإصلاح مسلمة أولية لتقييم الواقع ورسم المستقبل ونقد الماضي.

هذه هي مايسميها توكيفيل بـ «برامج الإصلاح» في طرح مشاريع إصلاحية عامة تتعلق بقضايا مختلفة نظرياً وتبنيها من قبل المجتمع ومؤسساته. فإذا جمعنا إلى قضية برامج الإصلاح هذه.. تلك الفكرة المهمة لتشارلز تيلر حول «المخيال الاجتماعي» وكيف أن المجتمعات لاتبنى فقط على الوعي وماهو معروف أو واقع وحاصل فعلياً بل وعلى ماهو متخيّل أيضاً أو على مايتم ترقّبه وانتظاره فإننا بصدد تلمس حالة يصح تسميتها بـ «الإصلاح المتخيّل».

هذه الحالة تعني بالتحديد حينما يتجاوز خيال الناس وتوقعاتهم وآمالهم وطموحاتهم كل مايمكن أن يفعله واقع مغلوط ومركب بشكل لايمكن أن يستوعب أحلام الناس ومطالب التنمية والإصلاح.. مثل تلك القارورة الصغيرة التي بدأت فيها تلك الشجرة الطفلة -والتي كانت بذرة يوماً ما- تكبر بشكل بطيء ولكن مستمر ودائم بحيث يمكن أن تترقب وأن تفهم بأن هذه القارورة لايمكنها أن تستوعب هذه الشجرة يوماً ما حينما تصبح كبيرة بما فيه الكفاية لأن تشبّ عن الطوق.

قصة المخيال الاجتماعي تعني أن هناك مجتمعاً متخيّلاً يتم رسمه ذهنياً ولاشعورياً بسبب الخطاب الشعبي العام والنشاط المدني وبسبب روافد ومصادر ثقافية متنوعة لمايجب أن يكون عليه الواقع، ومكمن أهمية هذا المجتمع المتخيّل المرسوم من كل ذلك هو أنه يصل لعموم الناس ويدخل العقل الباطن ويؤثر في لاشعور المجتمع في فهمه للأشياء وانتظاره بل وفي غضبه أحياناً وترقبه. والسبب وراء كل ذلك أن الخطاب الرسمي بدأ يتحدث عن قضايا الإصلاح وذلك الخطاب شكّل مع الوقت مجتمعاً وحالة متخيّلة يضعها الإنسان العادي كمعيار لمايريده وينتظره ويتوقعه..ويحاكم له الواقع. في ذات الوقت أصبح هناك خطاباً مدنياً افتراضياً يستخدم الوسائل الافتراضية ، خطاباً بدأ في توسيع شروط ذلك المجتمع المتخيل وعدّل في بعض شروطه ورفع سقف أهدافه وطموحاته لينتهي في النهاية لسكّ مجتمع افتراضي «كامل الصفات».

حينما يتم الحديث عن وجود فساد وعن الحاجة للإصلاح وعن أهمية إعادة النظر في قضايا مختلفة في المجتمع وحينما يتم طرح مشاريع وبرامج مختلفة لإصلاح الشأن العام ودعم التنمية فإن كل ذلك يجهز عبر الوقت لذلك الإصلاح المتخيل ويضع المجتمع على أهبة الأستعداد والانتظار لإصلاح حقيقي تم حياكته مع الوقت والتبشير به.. فإذا لم يرافق هذا انسجام حقيقي بين الواقع والمتخيل فإن أعداد الراحلين افتراضياً للمجتمع المتخيّل تكثر وقد تصل في يوم ما لصناعة مجتمع حقيقي يستوفي شروط هذا المجتمع الافتراضي أو على الأقل يحقق الحد الأدنى منها.

يرى دي توكيفيل أن أكثر اللحظات غضباً اجتماعياً واهتياجاً شعبياً هي حينما يتم تعثر مشاريع إصلاح تم التبشير بها على مستوى واسع وتم الترويج لها حتى لم يعد الناس يتحاورون حول قيمة فكرة الإصلاح بالأساس ولاحول وجود فساد ولاحول القضايا الأولية في وجود الخلل من الأصل لأن كل ذلك تحول إلى المسلمات الاجتماعية المتداولة في الاتفاق حول موضوع الفساد والحاجة اللازمة للإصلاح والتنمية السياسية المستدامة..فأصبح النقاش ربما يكون في طبيعة برامج الإصلاح تلك وفي حقيقتها وفاعليتها والمنجزات الحقيقية الناتجة عنها.

وحتى لو ابتعد الواقع عن المجتمع المتخيّل وعن هذا الإصلاح المتخيّل فإن دور هذا المخيال الاجتماعي بالغ الأهمية في تشكيل وعي الناس والتأثير عليهم في قراراتهم وقدرتهم وفي ردة فعلهم المدنية حين ينشيء العادات الاجتماعية المتداولة ويؤثر بشكل كبير في معرفة الدور الذي يمارسه الإنسان العادي تجاه هذا الواقع وفقدانه لذلك الإصلاح المتخيّل.

المواطن العادي في هذه العملية لايزال مجتمعه المتخيّل يكبر وربما يبتعد عن الواقع وكلما كبر هذا المجتمع واتسعت شريحة الحالمين والافتراضيين كلما تم التجهيز لاشعورياً لتاسيس واقع بديل وصناعة مجتمع حقيقي في الواقع يلبى متطلبات المجتمع المتخيّل ويحقق شروطه ويرسم حدوده حسب المفروض.. وهذه العملية ليست وليدة لحظة واحدة بل فترة طويلة من الوعي والتجهيز والتداول وانتظار تحقق تلك الحزمة الإصلاحية المفترضة والمنتظرة.. حى أن انبثاقها وظهورها للسطح قد يبدو مستحيلاً حتى تندفق مثل الينابيع فتصبح حتماً مقدورا مثل أثر الماء المنزل من السماء.قال الله تعالى: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِل َ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ).

- الولايات المتحدة abdalodah@gmail.com