Saturday 09/11/2013 Issue 416 السبت 6 ,محرم 1435 العدد

سطوة المصطلح (6)

عادل العلي

عندما تقول: إن المصطلح من أدوات الصراع الاجتماعي العام, ما الذي نقصده بالصراع؟ وما الذي يبقيه مستمرا؟ وما الذي يجعله مولدا للمفاهيم والمصطلحات والقيم والأخلاق والحقوق والقوانين والأنظمة والتاريخ والجغرافية والحدود السياسية واللغة والفن؟ منذ قابيل وهابيل بقي هذا الصراع مستعرا, مادته الأولى هي البداوة مقابل الحضارة، الاقتصاد الرعي المتنقل من مكان لآخر لهثا وراء الكلأ والماء والمهدد بظروف القحط والجفاف والأمطار غير الثابتة، مقابل الزراعة والثبوت في الأرض وإنشاء مجتمع مدني وتوزيع العمل وتنظيمه وانشاء المؤسسات والقوانين والمدنية بكل معانيها، أي انشاء حضارة. وبالرغم من أن الراعي سخر من أخيه المزارع لاعتقاده بأنه أفضل منه، حيث يقدم اللحم قربانا، بينما يقدم المزارع البصل والكراث، إلا أن ذلك لم يشف غليله، بل قتل أخاه ليمنع التغيير، ولكن الانتصار في النهاية للتغيير وليس للجمود، للدم وليس للسيف، للحضارة وليس للبداوة.

هذا التوصيف للصراع الاجتماعي الذي أشارت إليه معظم الأديان ذو دلالة قاطعة أن التغيير حاصل لا محالة, وتقوم به قوى جماعية معينة وأخرى تعيقه، ومن يتوهم النأي بالنفس عن هذا الصراع فهو كاذب على نفسه وعلى الآخرين.

المحرك الأساسي للصراع الاجتماعي هو الاقتصاد, فالإنتاجية الاقتصادية الأعلى تفرض نفسها دائما، حيث إن الناتج الاقتصادي العام هو الذي يؤدي الى تغيير النظام الاجتماعي القديم وإحلال الجديد مكانه.

لو ألقينا نظرة على الاقتصاد الرعوي, نجد أنه محدود بالظروف الطبيعية المتذبذبة، ويعتمد على نظام اجتماعي قبلي، وبالتالي فهو مجزأ، أي أن كل قبيلة لها نتاجها العام الخاص بها، ولذلك هي متنازعة فيما بينها على المراعي والمياه. إن هذا النوع من الاقتصاد المتخلف ينتج التمزق الاجتماعي، أي التمزق القبلي العشائري المقيت, والحروب المستمرة والإبادة الجماعية ويبقي الصحراء عرضة للهيمنة الخارجية والركود الاجتماعي.

الاقتصاد الرعوي ينتقل بالضرورة للاقتصاد الزراعي – التجاري الأرقى منه إنتاجية، حيث يتحول البدوي الى مزارع أي (مواطن)، يسخر المياه والأرض لخدمته، ولا يعتمد على الصدفة في إنتاجه. هذا النوع من الانتاج يتطلب توزيع العمل والثروة الناتجة عنه, أي إنشاء مؤسسات للإدارة والحماية والتطوير, أي إنشاء (دولة) أو (حضارة)، وهذه لابد بأن تترافق مع نهضة فكرية موازية, فليس اعتباطا أن (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وليس لتتقاتلوا، أي يصبح كل (مواطن) ينجز ما يتوجب عليه من عمل،مساهما في الإنتاج الاجتماعي العام، وهذا يستوجب نشوء دولة ذات مؤسسات متعددة تقوم بالحماية كالجيش والأمن، والتطوير كبيت المال، الذي يقوم باستصلاح الأراضي وتوفير مياه الري وإقامة الخدمات العامة وتوزيع العمل والثروة، ويكون بيت المال أو وزارة المالية مدعومة بنسبة من العمل الاجتماعي (الزكاة) او (الضريبة) عند الشعوب الأخرى.

الحضارة هي مجتمع منتج ودورة ومؤسسات وواجبات وحقوق وأخلاق ودين وتطوير وإبداع, هي مجتمع منظم في بقعة ثابتة من الأرض (وطن)، أي أن مفهوم الوطن مرتبط بالحضارة والدولة، فالبدوي لا وطن له، أما المواطن المنسلخ من القبيلة والمرتبط بنسيج اجتماعي يؤمن له شروط الحياة دون اللجوء للقبيلة، هو من يؤدي دوره الاقتصادي – الاجتماعي، وهو من يستحق أن تكون له حقوق محمية من مؤسسة قضائية لها دورها أيضا في النظام الاجتماعي العام.

كثيرا ما تطرح أسئلة حول مفهوم (الوطن) و(المواطن) و(الوطنية) . هذي المفاهيم كلها مرتبطة أولا ببقعة من الأرض يوجد بها مجتمع ومؤسسات وثانيا وهو الأهم أن للمواطن حقوقا مكفولة ومحمية لأداء دوره الاجتماعي بأمان ولا يكون عرضة للمزاجية أو الإهانة أو الاضطهاد أو التنكيل.

يتضح مما سبق أن الانتقال من نظام اجتماعي الى آخر يتطلب نهضة فكرية واجتماعية موازية وإنشاء مجتمع ذي نسيج ولحمة محمية (شعب) وإنشاء دولة أو حضارة على بقعة من الأرض (وطن) وترسيخ الواجبات والحقوق (المواطنة) . أما الوطنية فهي سلوك, أي ليس كل مواطن وطنيا, إنما الوطني هو المواطن الذي يعمل من أجل اللحمة الاجتماعية والتطوير والتغيير، أي ذلك المواطن المستعد للتضحية من أجل التطوير وازدهار مجتمعه.

كان المحرك الأساسي إذن في الانتقال من التمزق القبلي العشائري الى الحضارة هو الإنتاج الاعلى وما يلازمه من نهضة فكرية وبناء دولة وحقوق وفن وإبداع وموسيقى ...الخ. كما أن العنصر الاقتصادي هو المحرك أيضا, في المرحلة الانتقالية من الاقطاع ( الاقتصاد الزراعي) الى الرأسمالية, وهو المحرك حاليا للانتقال الى العولمة ( مجتمع بشري واحد).

لا زالت (العولمة) في أذهان البعض كلمة مخيفة وتبشر بضياع الحقوق والاقتصادات القديمة والتشكيلات السياسية المرافقة لها وصهر المجتمعات كلها في تشكيلة اقتصادية- سياسية – اجتماعية – حقوقية واحدة, تلغي (خصوصية) الشعوب المختلفة.

موضوع العولمة يحتاج الى تفصيلات متعددة والخروج بتصور واضح عن السلبيات والإيجابيات والشروط وسنتطرق لذلك فليما بعد.

- الدمام