Saturday 09/11/2013 Issue 416 السبت 6 ,محرم 1435 العدد

في الأدب ودرسه (8)

هل بدأت تتضح معالم القراءة «الأدبية»؟
حسين الواد

يُسلِم التأملُ في واقع الدِّراسات الأدبيَّة اليوم إلى مجموعة من النتائج قد يُسهم الوقوف على بعض منها والتقريب بينها في توضيح ما تتضمّنه، مقنعًا وقابلاً لأن يبنى عليه أو محتاجًا إلى مزيد من تعميق النظر، حتَّى يتيسَّر الخروج بالتَّعامل مع هذا الكائن الكلامي إلى «قراءة أدبيَّة» كثيرًا ما يجري ذكرُها دون أن تكون لها معالم واضحة دالة عليها.

إحدى هذه النتائج أن العلماء ينفقون جهودًا كبيرة في تعريف الكائن الأدبي وتمييزه عمَّا يشتبه به، دون أن يكون هو، من النَّشاطات القائمة على استعمال اللُّغة حتَّى إذا أقبلوا على التَّعامل مع نصوصه تناسوأ ذلك كلّّه واتخذوا منه الموقفَ الذي يتخذونه في التَّعامل مع النصوص غير الأدبيَّة، فالتمسوا فيها الفكرة والمحتوى والمضمون والدِّلالة. هذا ما نشاهده في معظم الدِّراسات في مرحلتي «التاريخية» و»الإيديولوجية» على وجه الخصوص. وعندما انتبه كثيرون إلى الشكِّ في كفاية هذا النَّوع من التَّعامل أضافوا إليه خليطًا من العناصر ظلّوا يسندونها إلى الذوق والانفعال أو العناية بالأشكال فبدت، بصرف النَّظر عمَّا فيها من غموض، إمّا زائدة وإمّا مُسخَّرة لخدمة المعنى.

أمّا النتيجة الثانية فتتمثَّل في أن الإغراق في المشغل التنظيري بتلطيف السُّؤال عن الأدب وتعميقه في ماهيته وخصائصه وفي المؤلِّف من يكون وفي الكتابة الأدبيَّة ما طبيعتها وما الغاية منها وما وظائفها، قد فتح الأبواب على مسائل مُعينة إلى الحدّ الذي زيّن لبعض الباحثين أن يتوجّسوا من الإفراط في التنظير أن يصبح صارفًا عن العناية بالأعمال الأدبيَّة نفسها أو ضربًا من ضروب التحذلق المعرفي وهو يراوح في مكان واحد يكاد لا يبرحه.

أمّا النتيجة الثالثة، وهي ممّا أفضت إليه النتيجتان السابقتان، فتتمثَّل في الوصول إلى أن في الأعمال الأدبيَّة مستويين كبيرين (لتكوّن كل منهما من عناصر كثيرة لا تقبل الانتظام في خيط ناظم واحد). أحد هذين المستويين هو المستوى الذي يحمل فيه الأدب الرسالة أو المعنى أو الدِّلالة دون أن تكمُن فيه خاصيّة الأدب الخاصَّة لأنَّه يشترك فيه مع نشاطات بشرية أخرى تلتقي معه.

وقد دأب الدارسون، مع ما بين تعريفاتهم للأدب ومناهجهم من تباين وما للحقائق التي يطلبونها منه من شديد الاختلاف، على أن يصرفوا للتعامل معه معظم عنايتهم. في التَّعامل مع هذا المستوى الأول كثيرًا ما تنصرف العناية إلى نقل الرسالة أو المعنى أو المضمون من لغة العمل الأدبي إلى لغة دارسه. إنّه التَّعامل الغائي أو القراءة النفعية (علمًا أن الخلط راسخ في الأذهان بين القراءة النفعية والقراءة الأدبيَّة). غير أن العمل الأدبي، في هذا المستوى الذي يشترك فيه مع سواه، يعدّ أيضًا عملاً فنيًا، فكان من ذلك أن أخذ الدَّارسون في التَّعامل معه بالمنحى الجمالي الذي يقوم على الاهتمام بالمظاهر الجماليَّة مثلما يهتمّ بها علماء الجمال في دراسة الأعمال الفنيَّة. أما المستوى الثاني (وهو المستوى الذي تكمن فيه خاصية الأعمال الأدبيَّة الخاصَّة بمعنى أنّه لا يشترك فيه مع الأعمال غير الأدبيَّة أو الأعمال الفنيَّة) فهو الذي يحاور فيه الأدباء، والشعراء منهم على وجه الخصوص، النظام اللغوي فيستدركون عليه أو يحوّرون منه («يتصرّفون» فيه حسب النابهين من أسلافنا). وإلى هذا المستوى الثاني لم يلتفت الباحثون إلا عرضًا أو على نحو متقطع في البلاغة القديمة خاصة وبعض الدِّراسات المعاصرة. هذه النتيجة الثالثة تسلم إلى فهم للأعمال الأدبيَّة يراعى من خصائصها الخاصَّة تكوّنًا ووظائفَ ما يبدو إيلاؤه مزيدًا من العناية المعمّقة مطوّرًا للدِّراسات الأدبيَّة أو، على أقل تقدير، موضحًا لتخليص مسائلها من وخيم الخلط والتداخل.

من خصائص الأعمال الأدبيَّة عند التَّعامل معها في نطاق المستوى الأول، نعني مستوى الاعتناء بالمعاني والدلالات والمضامين تعاملاً نفعيًّا، أنَّها تتراءى ناطقة بالشيء وغيره كأن يستخرج منها بعض القراء فوائد تخصّ الأدباء وعصورهم أو نفسياتهم وما يضطرب فيها من أحاسيس باطنية أو تتعلّق بأوساطهم الاجتماعيَّة ومواقفهم الإيديولوجية والعقدية أو تتصل بالثقافات التي يكتبون فيها ولها.

ومع أن العمل الأدبي من تلك الأعمال واحد فإنَّه يجود، بسخاء أحيانًا، بما يطلبه منه كل قارئ. غير أن ما يستخرجه منه القراء من فوائد هزيلة وسطحية أو دسمة وعميقة لا تنقص من ذلك العمل شيئًا ولا تأتي على ما فيه. وهذا هو المقصود بالقول إن الأعمال الأدبيَّة بمثابة «الطاقات المقدّرة» يمكن لأيِّ قارئ أن يأخذ منها حاجته.

غير أن الأعمال الأدبيَّة، في هذا المستوى الأول دائمًا، ليست مُجرَّد «أشياء» عادية للاستعمال وذلك بفضل ما لها، في نظر الدّارسين، من خصائص فنيَّة.

والمعروف أن قراءة الأعمال الأدبيَّة لا تتم على النحو الذي تقرأ به الأعمال غير الأدبيَّة، فهي إلى فاعليتها المفهومية ذات فاعلية جماليَّة بحكم ما تحركه في القارئ من انفعال. لكن مصطلح الانفعال هنا يحتاج إلى تدقيق، فنحن لا ننفعل عند قراءة الأعمال الأدبيَّة بما نلمسه فيها من روعة أو توفره لنا من متعة على النحو الذي ننفعل به ونعجب ونمتع إزاء روعة كشف علمي أو نظرية معرفية مثلاً، ذلك أننا إنما ننفعل من «تصريف الكلام» فيه أو «تحوير» ما ألفنا من أنماط الوجود أو من علاقتنا به.

من هنا كان المرور إلى المستوى الثاني أمرًا ضروريًا. وكنَّا قد قدمنا أنَّه هو الذي يتَضمَّن خصيصة الكائن الأدبي وخصوصًا أن الأبحاث، فيه، ما زالت في بدايتها، فهي قد تاهت عنه طويلاً بتماس الأجوبة عليه لدى علوم إنسانيَّة كانت رائدة فكثرت عليها منها المشوّشات. من ذلك مثلاً أن التصرّف في الكلام والتحوير من الموجود كثيرًا ما كان الباحثون يكتفون منهما بالانعطاف إلى «رؤية العالم» و»تجديد العلاقة» بالوجود أو يقفون، متى لم يقوموا بذلك، عند الاقتصار على الملاحظة والوصف على النحو الذي كانت تزاوله البلاغة القديمة مستمرّا، على نحو من الأنحاء، في الدِّراسات الأدبيَّة المتأثرة بالأسلوبية خاصة. وبطبيعة الحال فإنّه لا يمكن أن ننتبه لتصرّف ما من أوجه التصرّف في الكلام وأن نصفه دون أن نتساءل عن الدواعي إليه وعمَّا يترتَّب عليه حتَّى يكون ذلك كافيًا للوقوف على أهميته.

ولعلَّه يمكن، لتقريب هذه الفكرة من الأفهام، أن نمثّل لها بما يقوم عليه تعليم اللُّغة في مدارسنا عندما أصبح يتبع الطريقة المتمثّلة في ملء الفراغات أو تغيير ما «يجب» تغييره من الصِّيغ التركيبية أو الصرفية. فهذه الطريقة تقوم، رغم ما فيها من فوائد، على نظرة إلى اللُّغة بها كثير من أوجه الوهن. فهي تُعدُّ اللُّغة كائنًا شفافًا يتجلَّى فيها العالم كما فهي صادقة الإشارة إلى مكوِّناته وما بينها من ضروب العلاقات، ثمَّ هي تقوم على عدّ الصِّيغ متطابقة في الدِّلالة على ما تدل عليه، ثمَّ هي ترى أن ما يدرك واضحًا جليًّا تُؤدِّيه عبارة واضحة جلية، وهي، قبل ذلك وبعده، تعمل على تطويع أذهان الناشئة للنظام الذي تنهض عليه اللغة. وقد يصدق هذا أو بعضه على اللُّغة الأساسيَّة إلا أنَّه لا يصلح اعتماده بالنِّسبة إلى الصفات وهي من أرحب المجالات التي يتحرَّك فيها الشعر وتمتلئ بها علاقتنا بالوجود. فإذا طلبنا من التلاميذ مثلاً أن يملؤوا الفراغات في تراكيب من قبيل:

«وإذا المنية..... ألفيت كل تميمة لا تنفع»

أو» الشَّمس ..... مثل البرتقالة»

وملأها بعضهم بـ «أنشبت أظفارها» (على نحو ما كان قد قاله أبو ذؤيب) ونحن ننتظر ما يفرضه النظام اللغوي مثلما اعتدنا عليه في العادي من الاستعمالات حكمنا على الإجابة بالخطأ.

أما إذا وضع في المثال الثاني «زرقاء» (مثلما قال الشاعر بول إيلوار) فإننا نضيف إلى الحكم بالغلط تشنيعًا واستفظاعًا. ومع هذا فالمثالان مستساغان في الشعر يكاد الإعجاب بقوة الإبداع فيهما لا ينقطع. فعلى أيّ الأسس ينهض عدّ هذه الأمثلة مقبولة ومستحسنة مرة ومردودة مرفوضة مرة لولا اعتقاد الناس، وهو اعتقاد ساذج جدًا، في أن اللغة، مثلما حُمِلنا على إلفها، تعبّر عن العالم كما في ذاته وعن علاقتنا به كما في ذواتنا. وعندما يحصل الصّدام بين هذا المعتقد الساذج والواقع يتم اللجوء إلى الضرورات أو المجازات.

نتيجة هذا أن الأدب يَتطلَّب قراءة «أدبيَّة» لم تدرك بعد واضحة المعالم. ومن مقوِّماتها أن العمل الأدبي ليس مُجرَّد شيء قابل لأن يستعمل مشيئًا لغاية من الغايات، فهو ذو فاعلية تتجاوز الرسائل التي يحملها والمضامين والمعاني التي يدلّ عليها. وهو منفتح على توفير الأجوبة التي تلتمس منه غير مكتف بها، وهو يقوم على «التصرف» في اللُّغة أو «التحوير» منها دون اللجوء إلى فرضهما أو الاتجاه إلى تقويض اللِّسان لأنَّه يستدرك على نظامه ويحوّر منه في الاتجاه الذي يتكيَّف به الإدراك. يبقى أن هذه الخصائص إلى جانب أخرى لم نذكرها تظل في أمس الحاجات إلى كثير من الدرس والتحليل حتَّى تتبلور للقراءة «الأدبيَّة» معالمها.

- تونس