Culture Magazine Thursday  10/01/2013 G Issue 393
فضاءات
الخميس 28 ,صفر 1434   العدد  393
 
مداخلات لغوية
التشيؤ والفتشية
فالح العجمي

 

لو نظرنا إلى ما ساقه هوركهايمر بشأن أثر التشيؤ في الفن والإبداع، وكيف أدى إلى انحطاط العمل الفني في ظل المجتمع الصناعي وظروفه، مما أفقده أصالته، لفهمنا سبب اهتمام البشر حالياً بوسائل الإبداع القديمة والأعمال الفنية المتقدمة. فالتشيؤ والاغتراب ترجع أسبابهما إلى النظام الاقتصادي الرأسمالي، حيث تكون علاقات الإنتاج والسوق والرأسمالية هي المسؤولة عن عبادة السلع أو صنميتها (الفتشية)؛ إذ أصبحت علاقات الناس كالسلعة، وهو الوضع الذي وصفه ماركيوز في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد». حيث يكون الميل إلى تحنيط العلم، وتحوله إلى قدرة هائلة على تقديم إجابة لكل سؤال، ووضع حلول لأي مشكلة. فالتكنولوجيا تضفي على الأشياء صفة الأدوات وتحولها إلى مجرد وسائل، لتكون عائقاً أمام التحرر، فيتحول الإنسان نفسه إلى أداة.

وقد ساد وهم لفترة طويلة من الزمن، بأن التقنية تزيد من قدرة الإنسان على التحرك، وتؤدي إلى زيادة الحرية، وتبعاً لذلك إلى إمكان تحسين واضح للظرف الأخلاقي الإنساني. لكن ذلك الاعتقاد أصبح محل خلاف؛ فما كان سائداً بأن تقدم العلوم وتطور التكنولوجيا يوسع من مجال الحرية لدى البشر، ويسهم في ترقيتهم الأخلاقية، صار اليوم في موضع شك كبير.

وقد عرّف لوكاتش التشيؤ، بأنه تحول الصفات الإنسانية إلى أشياء جامدة واتخاذها لوجود مستقبل، واكتسابها لصفات غامضة غير إنسانية. وهنا يظهر النقد الحقيقي الأخلاقي للرأسمالية، فالبشر يتحولون إلى أشياء يمكن بيعها وشراؤها.

وكانت بعض الدراسات قد رصدت ارتباط التكنوقراطية بالتقنية، إن لم تكن صنيعتها. فمن جانب يعد الوعي التكنوقراطي أقل أيديولوجية من الأيديولوجيات التقليدية، لأنه ليس لديه هذه القدرة الهائلة على تعمية البصائر التي تكتفي بتغذية الوهم من أجل تحقيق المصالح.

ومن جانب آخر، فإن الأيديولوجيات الأكثر شفافية اليوم، والتي تسود في خلفياتنا، وتجعل من العلم صنماً؛ لا تقاوم وتذهب أبعد من الأيديولوجيات التقليدية، لأنها بحجبها لمشاكل الممارسة، لا تبرر مصلحة جزئية في السيادة لطبقة محددة فحسب، وإنما تقمع في الوقت نفسه مصلحة جزئية في التحرر لطبقة أخرى؛ بل هي أيضاً تضر بمصلحة الجنس البشري كله في التحرر.

وأغلب دعاة التقنية، الذين ناصروها بوصفها وسيلة لتحرير الإنسان من الأمراض الفتاكة والأوبئة وجبروت الطبيعة ... إلخ، أشاروا أيضاً إلى الأخطار التي تحدق بالطبيعة من جراء الاستعمال التقني الأرعن لمواردها. فكل تقدم في فنون الزراعة يعد تقدماً في نهب الأرض؛ وكل تقدم في زيادة خصوبة الأرض لوقت محدود هو تقدم في تخريب الموارد الدائمة لهذه الخصوبة.

ومع ذلك، فالتقنية أو بالأحرى صنوها في المجال السياسي «التكنوقراطية» أبعد من أن تحتكر مجمل النشاط الإنساني في المجتمع. لكنها توجد سلطة قاهرة في ظل التقنية، من خلال سيطرة التقنية على الطبيعة، والنتيجة المترتبة على ذلك أن النظام العملي يصبح جزءاً من الطبيعة نفسها، وتنحصر أهمية العقل ودوره في التكيف مع البيئة. وتظهر آثار التسلط التكنوقراطي من خلال قوة غير شخصية هي التكنولوجيا. إذ إن منطق السيطرة صورة كامنة في أسلوب التفكير العلمي والتقني الحديث، فيتعامل معها بوصفها مجالاً للوسائط أو الوسائل الممكنة، ومادة للتحكم والتنظيم. ثم يمد سلطانه على البشر والعلاقات البشرية، فيضعها تحت تصرفاته وسيطرته، بحيث لا يكون للعقل في النهاية إلا طابع أداتي، وتصبح قيمته الإجرائية ودوره في إحكام السيطرة على البشر، وعلى الطبيعة هو المعيار الأوحد. فوسائل التقدم تسلب صفة الإنسانية عن الإنسان، والتقدم يؤدي تدريجياً إلى هدم فكرة الإنسانية؛ لذا يتحالف العقل والسلطة والنظام والواقع بشكل عضوي لمحاصرة الفرد والجماعة.

- الرياض
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 9337 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة