Culture Magazine Thursday  10/01/2013 G Issue 393
فضاءات
الخميس 28 ,صفر 1434   العدد  393
 
مداخلات لغوية
الطباق الثقافي(4)
أبو أوس إبراهيم الشمسان

 

يجعل أستاذنا الغذامي عنوانًا جانبيًّا سماه (بكلام ليس من كلامنا) وهو عنوان اقتبسه من حكاية نقلها أبو حيان التوحيدي، وهي حكاية وقعت في مجلس الأخفش عن أعرابي حضر درسًا في المسجد (فسمع كلام أهله في النحو وما يدخل فيه، فحار وعجب وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب...؟ فقال: أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا). وليس بغريب من هذا الأعرابي الذي لا يعرف من وظائف اللغة سوى ما يحقق أغراضه المباشرة في محيطه وبيئته؛ ولكن الغريب أن ينطلق أستاذنا من مثل هذه الحكاية ليقول «هذه حكاية تحمل مفارقتها الثقافية التي لما تزل( ) حيّة وتنتج مفعوليتها الدلالية وهي هذه الهوة العميقة ما( ) بين اللغة والنحو»، وكأن أستاذنا يغض الطرف عن الفرق بين لغة التواصل اليومي ولغة العلوم ومصطلحاتها، وهو أمر لا يخص النحو وحده؛ فهذا الأعرابي أو نظيره من عامتنا لن يفهم مصطلحات النقد والأدب، وهو لن يفهم مصطلحات الهندسة والطب والطبيعة وغيرها، فتلك لغات خاصة، ولكل صناعة لغتها التي يستعملها أهلها في صناعتهم ولا يستعملونها مع غيرهم إلا ما كان منها مشتركًا، وليس ينفع اللغة أية لغة أن تهجر نحوها؛ لأن غرابة محتواه تصدم عامة الناس، وكتب التراث تروي لنا جملة من الطرائف والملح التي تفصح عن أن الناس أعداء ما جهلوا، أورد السيوطيّ في (بغية الوعاة، 1: 606) حكاية عن السجستاني أنه «دخل بغداد، فسئل عن قوله تعالى: (قوا أنفسكم)، ما يقال منه للواحد؟ فقال: قِ، فقال: فالاثنين؟ فقال: قيا، قال: فالجمع؟ قال: قوا، قال: فاجمع لي الثلاثة، قال: قِ، قيا، قوا. قال: وفي ناحية المسجد رجل جالس معه قماش، فقال لواحد: احتفظ بثيابي حتى أجيء، ومضى إلى صاحب الشرطة، وقال: إني ظفرت بقوم زنادقة يقرأون القرآن على صياح الديك، فما شعرنا حتى هجم علينا الأعوان والشرطة، فأخذونا وأحضرونا مجلس صاحب الشرطة، فسألنا فتقدمت إليه وأعلمته بالخبر، وقد اجتمع خلق من خلق الله، ينظرون ما يكون، فعنفني وعذلني، وقال: مثلك يطلق لسانه عند العامة بمثل هذا! وعمد إلى أصحابي فضربهم عشرة عشرة، وقال: لا تعودوا إلى مثل هذا». ومن تعليق لي على هذه الحكاية قلت إن من الخطر الإفصاح عن مكنون العقول في محضر العامة التي قد لا تتصف برحابة الصدر وسماحة الخاطر لتستقبل الجديد الغريب الذي لم تألفه نفوسهم وما اعتادته طبائعهم، وهه كانت معضلة المبشرين وأصحاب الكشوف والاتراعات الذين هلك طائفة منهم بجهل المحيطين بهم والمقتدرين عليهم. ثم يمضي أستاذنا إلى القول «تتسع اللغة أسلوبا وصيغا ولكن النحو يظل في نموذجه كما رسمه الأعرابي (ليس من كلامنا)، في حين تبقى صيغة الكلام عربية، والكلام به وفيه عربيان، ولكن صيغة ثالثة تظل ليست من الكلام، وهي صيغة النحوي والنحوية، وهنا يأتي المأزق الذي ظل متجمدا على مدى قرن من ثقافة الشكوى وثقافة البحث في حلول تحاول معالجة سؤال النحو في الثقافة العربية»، ولسنا على يقين من غرض أستاذنا؛ فما الذي يريده للغة النحو ومصطلحاته حتى يرضى عنها، وكيف نتدرب على تصريف الأفعال إن كان ذلك غريبًا. النحو علم، والعلوم ليست ممتعة متعة الرواية والشعر والفنون؛ ولكنه كغيره من العلوم ضروري، وكل تلك الفنون الجميلة إنما كانت جميلة لما اتصفت به من انتظام، ولكنك إن جئت تكشف عن أسرار جمالها، وبيان أنظمتها انتقلت إلى مستوى يفارق جمال مستواها. وما وصفه من اتساع في اللغة أسلوبًا وصيغًا شاهد للنحو أنه لم يعق تلك اللغة عن الاتساع، ومن المقرر أن اللغة أوسع من نحوها، يشهد لذلك ما عرفناه من لغة القرآن والحديث والقصائد الجياد، فكل أولئك اشتمل على استعمال فارق القواعد فقُبل من حيث هو لغة، وتُوقِّف فيه أن يكون معيارًا للاستعمال؛ لأن ذلك لو حدث لضاع المعيار، ولتشعب الطرق، ولاتسع الشق على الراقع. وأما قوله «إن اللغة بخير ولكن النحويين ليسوا بخير» فموضوع حديث قادم.

- الرياض
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7987 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة