Culture Magazine Thursday  10/01/2013 G Issue 393
فضاءات
الخميس 28 ,صفر 1434   العدد  393
 
مَدْيَنَةُ القطاعِ العسكريّ
عينٌ على جهاز الأمن العامّ!
خالد بن أحمد الرفاعي

 

في المدة اليسيرة التي أشرفتُ فيها على منبر الحوار بنادي الرياض الأدبي راودتني فكرة تضييف إحدى الرتب القيادية في جهاز الأمن العامّ؛ للحديث عن موضوع أمني يهمّ الناس، وتكون له ملابساته التي تستفزّ المتابعَ والأسئلة!

كان الكثيرون من حولي يستبعدون تجاوبَ الجهات الأمنية مع هذه الفكرة؛ لاعتبارات متعدّدة، من أهمّها: مبدأ التحفّظ الكبير الذي يخيّم على العاملين في المجال الأمني، فيجعلهم متردّدين في مواجهة الأسئلة المفتوحة، وكذلك عدم وجود تعاون مسبق بين الجهات الأمنية والجهات الثقافية، يهيّئ الطرفين للدخول المباشر في تفاعل من هذا النوع، هذا بالإضافة إلى قلة القيادات الأمنية التي تملك القدرة على المواجهة المفتوحة مع الأجهزة الإعلامية واللقاءات الثقافية..

لهذه الأسباب -ولأسباب أخرى- تخلّقَ لدى الكثيرين موقفٌ متشائمٌ، يذهب إلى التشكيك في تحصيل تجاوب مثمر من قبل الجهات الأمنية مع فكرة ذات طابع مدني كفكرة الحوار الثقافي المفتوح!

كان اختياري قد وقع على «الجريمة في المملكة العربية السعودية» عنواناً للمحاضرة، وعلى اللواء خضر بن عائض الزهراني (الذي كان يشغل منصبَ مساعد مدير الأمن العام لشؤون الأمن) ضيفاً للقاء، فأما اختياري موضوعَ الجريمة فجاء بناء على عديد الدراسات التي عالجت ملفّ الجريمة في المملكة، وحذّرت من أسبابه وتطوراته المخيفة..، وأما اختياري اللواء الزهراني فكان متكئاً على جملة أمور، من أهمّها: حضوره الإعلامي في عدد من القنوات الفضائية، وتحرّره إلى حدٍّ كبيرٍ من القيود التي يفرضها رجلُ الأمن عادةً على نفسه، هذا بالإضافة إلى خبرته الطويلة في مجالات التحقيق والبحث والتحري، وعضويته في لجان دائمة ذات حساسية أمنية عالية، من مثل: اللجنة الدائمة لمكافحة جرائم غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، واللجنة الدائمة لرصد الجريمة المنظمة في المملكة..

بعد اقتناع مجلس النادي بعنوان المحاضرة وضيفها، قام بتوجيه خطاب رسمي لمعالي مدير الأمن العام الفريق أول سعيد القحطاني، يطلب فيه (وفق ما تقتضيه الأعراف العسكرية) الموافقة على مباشرة التنسيق مع اللواء الزهراني...، وهنا تحديداً كانت المفاجأة، التي أخذتنا -فيما بعد- إلى عدد من المفاجآت المهمّة..

كانت المفاجأة الأولى (والمشجِّعة أيضاً) صدور موافقة مدير الأمن العام على دعوة النادي بعد ساعتين فقط من إرسال الخطاب (وهذا ما لم يحدث حتى مع بعض الجهات المدنية)، ولم ينتهِ أسبوع واحد بعد استلام الموافقة حتى اكتمل التنسيق مع الضيف على عنوان المحاضرة وعناصرها (كما وضعها النادي)، وعلى موعد اللقاء أيضاً، دون أن نتلقى تساؤلات حول نوعية الحضور، أو طبيعة الأسئلة التي ستُلقى، ودون وضع شروط مسبقة حول طريقة إدارة الحوار (وهذا أيضاً ما لم يكن معهوداً ولا متوقعاً في مثل هذا التعاون).

المفاجأة الثانية ظهرت في المحاضرة نفسها؛ إذ حضرت في المادة المعروضة النسبُ المئوية بمصادرها وإحالاتها الإحصائية الدقيقة، وحضرت أسباب الجريمة ودوافعها كما هي بلا رتوش ولا أصباغ، وتجلّت لنا أدواتُ الحلّ المستخدمة في معالجة الجريمة على طبيعتها، بما تشتمل عليه من تطور وقصور، وحضرت كذلك الشفافية والوضوح، إذ عبّر الضيف -من خلالهما- عن أخطاء رجل الأمن في التعامل مع بعض الوقائع، وعن عدم توصّل الجهات المعنية إلى حلّ كافٍ (وقائي) حول بعض القضايا الأمنية التي تؤرِّق المواطنين...، واتفق بناء على خبرته الأمنية مع الدراسات التي تحدثت عن البطالة والفقر بوصفهما سببين مهمّين من أسباب الوقوع في الجريمة...، ثم جاءت المفاجأة الثالثة عند فتح المجال للأسئلة والحوار، إذ بدا الضيف متزناً في تعامله معها، جريئاً في عرض ما يُحسب للجهاز وما يحسب عليه، كما أبدى تفاعله مع بعض المشكلات التي عرضها بعض روّاد المنبر، وأعرف أنه قد تدخل في حلّ بعضها في الليلة نفسها بطرائق أبعد ما تكون عن البيروقراطية المعهودة..

هذه المفاجآت دفعت كثيراً من الحضور إلى طلب المداخلات، وعرض الأسئلة على سجيّتها، وربما دفعت بعضهم إلى طلب تمديد الحوار إلى لقاء آخر؛ الأمر الذي يعكس بوضوح التعطّشَ الكبيرَ إلى لقاء من هذا النوع يجمع بين الهواجس المدنية وطبيعة المباشرة العسكرية.

هذه الحالة تجعلنا قبالة تجديد مهمّ في الخطاب الأمني، الذي اعتاد زمناً على تجنّب الاسترسال في عرض الأسباب، والتواري ما أمكن عن مكاشفة الحالات والوقائع، والتردّد في دخول مناطق مفتوحة من التساؤل..

وإذا ما وضعنا تجاوب مدير الأمن العامّ وتفاعل اللواء الزهراني إلى جوار ملامح أخرى مهمّة، من مثل: تعيينِ ناطق رسمي في كلّ إدارة أمنية (لأغلبهم حساب في مواقع التواصل الاجتماعي)، وتحرّفِ الأمن العام إلى استقبال عدد من طلاب التعليم العام في ندوات حوارية مفتوحة ذات طبيعة توعوية وتثقيفية داخل مبنى الجهاز وعلى مسافة أمتار قليلة من مكتب المدير العامّ، وإذا ما أضفنا كلّ ما سبق إلى افتتاح شعبة لحقوق الإنسان في الأمن العام، تتبعها أقسام فاعلة في إدارات المناطق...، فهذا كله يجعلنا (في أقلّ تقدير) أمام إرهاصات مهمّة ستفضي بنا مع الأيام إلى مَدْيَنَةِ البيت العسكري، ورفع قدرة الجهاز ومنسوبيه على التعاطي مع أدبيات المرحلة الجديدة، وأهمّها -بطبيعة الحال- الشفافية، والتواصل، ومراعاة حقوق الإنسان.

إلى وقت قريب كانت هناك فجوة كبيرة بين جهاز الأمن العام والمواطنين، وكانت قطاعاته شبيهة إلى حدٍّ ما بالجزر المعزولة، التي لا يعرف الناس عنها إلا ما يجهلونه، ولم يكن له خطاب تواصلي أو تفاعلي، يستطيع الراصد أن يبحث من خلاله في منطلقات تفكيره، وعمليات إجرائه...، وكانت الصورة الذهنية تقدمه بصورة واحدة منمّطة (تبرزه كما لو كان جهة مطاردة وضبط ومحاسبة)!

لقد قام جهاز الأمن العام بما يمكن القيام به في هذه المرحلة، بدليل التطورات التي أشرتُ إلى بعضها، وبقي دور الجهات الأخرى لدعم حركة التمدين التي دشّنها منذ عام 2005م، وهنا يأتي دور وزارة الثقافة والإعلام في توسيع دائرة البرامج الأمنية إذاعياً وتلفزيونياً، ودور الصحف المحلية في تخصيص صفحات أو ملاحق عسكرية (ولتكن في البدء شهرية) تُعنى بالجانب التوعوي...، ودور الجامعات كذلك في فتح حوار علمي عملي بين أساتذتها والقيادات الأمنية من جهة وبين القيادات الأمنية وطلابها من جهة أخرى، وثمة أدوار لا حدّ لها يمكن أن تنهض بها الأندية الأدبية (كما فعل أدبي الرياض وأحسبه رائداً في هذا السياق)، والنشاط الثقافي في معرض الكتاب، وجمعية حقوق الإنسان، والجمعيات العلمية السعودية المتخصصة في علم النفس وعلم الاجتماع والتربية...

إنها خطوة مهمّة من جهاز مهمّ تحتاج منّا دعماً يليق بهما!

@alrafai - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة