Culture Magazine Thursday  10/01/2013 G Issue 393
ترجمات
الخميس 28 ,صفر 1434   العدد  393
 
أزمة الشعر والشعراء 4-6
كان ولاء نقاد الكتب قبل 50 عاماً مع «القارئ» فقط وليس مع زملائهم الشعراء أو لناشرين
د. حمد العيسى

 

نواصل مع الجزء الرابع من مقالة «أزمة الشعر والشعراء» للشاعر والناقد الأمريكي مايكل دانا جويه:

ولكن المراقب ذا الرؤية الثاقبة يجب أيضاً أن يعترف أنه من خلال انفتاح صنعة الشاعر لجميع المتقدمين ومن خلال توظيف شعراء ليفعلوا شيئاً آخر غير كتابة الشعر، فإن المؤسسات غيرت الهوية الاجتماعية والاقتصادية للشاعر من فنان موهوب إلى معلم. ومن الناحية الاجتماعية فإن تعريف الشاعر كمدرس قد اكتمل الآن. السؤال الأول الذي يسأله شاعر لآخر الآن عندما يتعارفا هو «أين تُدرس؟» المشكلة ليست أن الشعراء يُدرسون. الحرم الجامعي ليس مكاناً سيئاً لعمل الشاعر. ولكنه مكان سيئ لعمل «جميع الشعراء». المجتمع يعاني من فقدان المخيلة الإبداعية والطاقة التي يجلبها الشعراء للثقافة العامة. والشعر يعاني عندما تضطر المعايير الأدبية أن تتوافق مع تلك التي للمؤسسات.

وحتى في داخل الجامعات أصبح الشعر المعاصر الآن يوجد كثقافة فرعية. الشاعر المدرس يكتشف أن هناك القليل من القواسم المشتركة مع زملائه الأكاديميين. الدراسة الأكاديمية للأدب على مدى السنوات الـ 25 عاماً الماضية، قد انحرفت في اتجاه نظري لا يجد معظم الكتاب المبدعين المبتكرين سوى القليل من التعاطف والألفة معه. منذ 30 عاماً تنبأ خصوم برامج الكتابة الإبداعية أن شعراء الجامعات سيقعون في شَرَكْ النقد الأدبي والبحث العلمي. وقد ثبت خطأ هذه النبوءة بشكل ذريع. لقد خلق الشعراء جيوباً في المؤسسات الأكاديمية تقريباً منفصلة تماماً عن زملائهم الناقدين. إنهم يكتبون نقداً أقل مما كانوا عليه قبل دخول المؤسسات الأكاديمية. وللضغوط التي تفرض مواكبة الكم الهائل من الشعر الجديد، والمجلات الصغيرة (أي غير الربحية) والمجلات المتخصصة والمختارات، أصبحوا أقل قراءة للأدب القديم. وأقرانهم في أقسام اللغة الإنكليزية كانوا عموماً يقرأون في النظرية الأدبية أكثر من الشعر المعاصر. وفي العديد من الأقسام كان الشعراء في حالة حرب علنية مع المنظرين الأدبيين. وكانت المفارقة أن وضع الفريقين تحت سقف واحد جعلت كل منهما أكثر تحزباً وتعصباً. وهكذا أصبح الشاعر معزولاً حتى داخل الجامعة، وتحول دوره - على مضض - من فنان شامل كان موضوعه الحقيقي هو الوجود البشري كله، إلى مجرد خبير تربوي.

عندما كان الناس ينتبهون

ولكي نستوعب كيف تغيرت جذرياً حالة الشاعر الأميركي، لا يحتاج المرء إلا مقارنة اليوم مع ما كان عليه الوضع قبل 50 عاماً فحسب؛ ففي عام 1940، وباستثناء ملحوظ لروبرت فروست، كان قليل من الشعراء يعملون في الكليات إلا إذا كانوا يدرسون كورسات أكاديمية تقليدية مثل مارك فان دورين وإيفور وينترز. وكان برنامج الكتابة الإبداعية الوحيد قد بدأ كتجربة قبل بضع سنوات في جامعة ولاية أيوا. ووضح الحداثيون الخيارات التي كانت أمام الشعراء لكسب العيش. كان يمكن دخول مهن الطبقة المتوسطة، كما فعل تي إس إليوت (عمل في بنك ثم تحول إلى ناشر)، ووالاس ستيفنز (محام تأمين للشركات)، وويليام كارلوس ويليامز (طبيب أطفال). أو كان يمكنهم العيش في بوهيميا وإعالة أنفسهم كفنانين وبطرق مختلفة، أو قد يصبحوا مزارعين، مثل الشاب روبرت فروست.

ولكن في معظم الأحيان كان الشعراء يعيلون أنفسهم بالعمل كمحررين أو في عرض الكتب ومشاركين بنشاط في الحياة الفنية والفكرية في زمنهم. حتى الشعراء الذين عملوا في نهاية المطاف في مهن أكاديمية استغلوها فكرياً لتعزيز الصحافة الأدبية. كان الشاب روبرت هايدن يغطي الموسيقى والمسرح لصحافة ولاية ميشيغان السوداء. آر بي بلاكمور، الذي لم يكمل الثانوية مطلقاً، عمل في عرض الكتب لـ مجلة «هاوند آند هورن» قبل أن يبدأ التدريس في جامعة برينستون. أحياناً قد يعمل الشاعر لزيادة دخله عن طريق إعطاء قراءة أو محاضرة، ولكن هذه المناسبات كانت نادرة. روبنسون جيفرز، على سبيل المثال، كان في الـ 54 عندما قدم قراءته الشعرية الأولى. بالنسبة إلى معظم الشعراء، كان الوسيط الداعم ليس الفصل الدراسي أو المنصة ولكن الكلمة المكتوبة.

لو كان الشعراء يريدون كسب عيشهم عن طريق الكتابة، فإن ذلك سيكون أساساً عن طريق كتابة النثر وليس الشعر؛ فالمنابر التي تدفع المال للشعر كانت محدودة. وفي ما عدى بعض المجلات الوطنية القليلة، والتي تفضل عموماً الشعر الخفيف أو السخرية سياسية، فلم يكن هناك في أي وقت من الأوقات سوى بضع عشرات من المجلات التي تنشر كمية معتبرة من الشعر. ولذلك كان ظهور فصلية جديدة وجدية مثل «بارتيسيان ريفيو» أو «فيريوسو»، حدثاً ذا أهمية حقيقية، وكان هناك جمهور صغير ولكنه مخلص يتطلع بشغف إلى صدور كل عدد من المجلة. وكان بعض الناس من الذين لا يستطيعون تحمل نفقات شراء نسخة، يستعيرونها أو يقرأونها في المكتبات العامة. وبالنسبة إلى كتب الشعر، وإذا استبعدنا المطبوعات من فئة «فانيتي برس» (حيث يدفع المؤلف ثمن كتابه)، فقد كان هناك أقل من 100 عنوان جديد كل عام. ولكن الكتب المطبوعة كانت تنشر عنها العروض في الصحف اليومية، فضلاً على المجلات والفصليات. وكان يمكن لشهرية متخصصة مثل «بوتري» (شعر) أن تغطي تقريباً الحقل بأكمله.

عندما كان نقاد الكتب ينقدون حقا

ولكن كان نقاد الكتب قبل 50 عاماً بمقاييس اليوم صعبين للغاية. وكانوا يقولون بالضبط ما يعتقدون، حتى عن معاصريهم الأكثر نفوذاً. تأمل، على سبيل المثال، وصف الشاعر والناقد راندال جاريل لكتاب الشاعر الشهير أوسكار ويليامز المتخصص بإعداد الأنطولوجيات: إنه كتاب «يعطي الانطباع بأنه كتب على الآلة الكاتبة بواسطة آلة كاتبة». تلك الملاحظة أبعدت شعر جاريل عن دخول أنطولوجيات ويليامز اللاحقة، لكنه لم يتردد في نشرها. أو تأمل تقييم جاريل لقصيدة أرشيبالد ماكليش «وعود أميركا»: إنها تبدو كما لو «قد كتبها سكرتير جمعية الشبان المسيحيين في مصحة للمرضى عقلياً». أو اقرأ نقد ويلدون كيس، ذا الجملة الواحدة لكتاب الشاعرة موريل روكيسر المعنون «ويك آيلاند»: «هناك شيء واحد يمكنك قوله عن موريل : إنها ليست كسولة!!». ولكن كان يمكن لهولاء النقاد أن يكتبوا بسخاء عن الشعراء الذين يعجبونهم، كما فعل جاريل عن إليزابيث بيشوب، وكيس عن والاس ستيفنز. مديحهم يهم، لأن القراء يعرفون أنه لم يأتِ كمجاملة.

كما إن نقاد الكتب قبل 50 عاماً كانوا يعرفون أن ولاءهم الأساسي يجب أن لا يكون مع زملائهم الشعراء أو الناشرين ولكن فقط مع «القارئ». وبالتالي كانوا يكتبون ردود فعلهم على ما يقرأونه بصدق وبضمير حي حتى عندما يحسون أن آراءهم قد تفقدهم حلفاء في الحقل الأدبي، ما قد يقلل الطلب على عروضهم لاحقاً وبالتالي ينخفض دخلهم. وعند مناقشة الشعر الجديد، كانوا يتوجهون إلى مجتمع واسع من القراء المثقفين. ومن دون التحدث بتعالٍ مع الجمهور، فإنهم حصدوا أسلوباً عاماً مفهوماً. ولكونهم يقدرون الوضوح والسهولة تجنبوا الجعجعة المتقعرة والطنطنة المتحذلقة الخاصة بالأكاديميا. كما حاولوا أيضاً، وكما ينبغي للمثقفين الجادين ولكن غالباً ما لا يفعله النقاد المتخصصون، ربط ما يحدث في الشعر مع الاتجاهات الاجتماعية والسياسية والفنية. لقد شحنوا الشعر الحديث بالأهمية الثقافية وجعلوه محور خطابهم الثقافي.

كانت أجورهم ضعيفة، ويعملون أكثر من طاقتهم، ولا يحصلون على تقدير ملائم؛ وعلى الرغم من هذه المعوقات، فإن هذه المجموعة من النقاد العمليين، وجميعهم من الشعراء، أنجزوا إنجازات رائعة. لقد عَرَّفُوا قواعد الشعر الحداثي، وطَوَرُوا أساليب لتحليل الشعر الشديد الصعوبة، وعرّفوا جيل منتصف القرن الجديد من الشعراء الأميركيين (لويل، روثكه، بيشوب، بيريمان، وغيرهم) الذي لا يزال يهيمن على وعينا الأدبي. ومهما كان رأي المرء في قواعدهم الأدبية أو مبادئهم النقدية هذه، إلا أنه لا مفر من الإعجاب بالطاقة الفكرية والعزم الهائل لهؤلاء النقاد، الذين تطوروا بأنفسهم ليصبحوا شعراء ونقاد من دون منح دراسية أو مناصب كأعضاء دائمين في هيئات التدريس، وأنجزوا ذلك بينما كانوا يعملون في كثير من الأحيان بصورة غير مستقرة بواسطة جهدهم في الكتابة الأدبية المستقلة Free-Lance. إنهم يمثلون ذروة تدعو إلى الفخر في الحياة الثقافية الأميركية. وحتى بعد 50 عاماً لا تزال أسماؤهم تتمتع بسلطة أكبر من النقاد المعاصرين باستثناء قلة. قائمة الأسماء القصيرة تشمل جون بيريمان، آر بي بلاكمور، لويز بوغان، جون شيادري، هوراس غريغوري، لانغستون هيوز، راندال جاريل، ويلدون كيس، كينيث ريكسروث، ديلمور شوارتز، كارل شابيرو، ألن تيت، وإيفور وينترز. وبالرغم من أن الشعر المعاصر له مناصروه ومروجوه، إلا إنه لا يوجد لديه مجموعة مماثلة تقدم مثل ذلك التفاني والمواهب وتكون قادرة على مخاطبة عموم المجتمع الأدبي.

ومثل كل المثقفين الحقيقيين ، كان هؤلاء النقاد يتمتعون بعمق الرؤية والبصيرة. وكانوا يعتقدون أنه إذا كان الشعراء الحديثون ليس لديهم جمهور، فيمكنهم خلق جمهورهم. وفعلوا ذلك تدريجياً. لم يكن جمهوراً ضخماً؛ فقليل من الشعراء الأميركيين عبر الزمن تمتعوا بعلاقة مباشرة مع الجمهور العام. لقد كان قطاعاً من الفنانين والمثقفين، بما في ذلك العلماء ورجال الدين والمعلمين والمحامين، وبطبيعة الحال الكتاب. وشكلت هذه المجموعة إنتليجنسيا أدبية تتألف أساساً من غير المتخصصين الذين يأخذون الشعر على محمل الجد مثل الرواية والدراما. وشكك مؤخراً الشاعر دونالد هول ونقاد آخرون في حجم هذا الجمهور عبر تحليل رقم المبيعات المنخفض لكتاب شعري جديد لشاعر معروف خلال تلك الفترة (عادة تحت 1000 نسخة). ولكن هؤلاء المشككين لا يفهمون كيف كان الشعر يقرأ آنذاك.

لقد كانت أميركا أصغر حجماً وأقل ثراء في عام 1940، وعدد سكانها نحو نصف العدد الحالي وتنتج سدس الناتج القومي الإجمالي الحقيقي الحالي. في تلك الأيام السابقة لكتب الغلاف الورقي Paperback الرخيصة، كان هناك كساد ولم يكن باستطاعة القراء ولا المكتبات تحمل شراء الكثير من الكتب كما يفعلون اليوم. ولم يكن هناك بالطبع جمهور كبير من طلاب برامج الكتابة الإبداعية الذين يشترون كتب الشعر المعاصر للاستخدام في الفصول الدراسية. وكان القراء يشترون كتب الشعر عادة في شكلين: مجموعات شعرية لشاعر بارز، أو كتب المختارات الشعرية. المجموعات الشعرية الكاملة لشعراء مثل فروست، إليوت، أودن، جيفرز، ويلي، وميلاي، كانت تبيع بصورة جيدة جداً، ويعاد نشرها كثيراً، وبقيت على الدوام متوافرة في المكتبات (اليوم معظم المجموعات الشعرية تختفي بعد طبعة واحدة). وأحياناً يجذب كتاب شعري جديد انتباه القراء. مجموعة أدوين أرلينغتون روبنسون الشعرية المعنونة بـ «تريسترام» (1927) اختيرت كأفضل كتاب من قبل نقابة أدبية. مجموعة «أفارذر رينج» لفروست باعت 50,000 نسخة بعد فوزها بجائزة إحدى مسابقات «كتاب الشهر» في عام 1936. لكن الناس كانوا «أساساً» يتعرفون على الشعر من المختارات الشعرية (الأنطولوجيات)، التي لا يشترونها لتوضع على الرف فحسب، ولكن أيضاً يقرأونها بفضول واهتمام.

نواصل بحول الله الأسبوع القادم

Hamad.aleisa@gmail.com - المغرب

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة