Culture Magazine Thursday  13/06/2013 G Issue 410
فضاءات
الخميس 4 ,شعبان 1434   العدد  410
 
وداعاً فريال الحوار
فيصل أكرم

 

نرتب أشياءنا، ونجدول أعمالنا، ونرسم لأيامنا خطوات دقيقة.. نغضبُ إذا حدث أيُّ خلل يعيق المسيرة التي ظننا أنها متقنة، وتضيق صدورنا حين نرمي إلى شيء فنفاجأ بمن يحول بين الرمية والهدف. والواقع أننا نجهل تماماً أن الأشياء التي نريدها تملك إرادة تفوق إراداتنا أحياناً..!

في صباح الخميس قبل الماضي، وكنتُ أتنقل بين بلدان خارج المملكة وداخلها، فوجئتُ بعدم نشر مقالتي الأسبوعية التي ألتزمُ منذ زمن بكتابتها وإرسالها للنشر (هنا في الجزيرة الثقافية) كل أسبوع، وتحيَّرتُ قليلاً مع شيء من القناعة حين تفضل العزيز الدكتور إبراهيم التركي - مدير التحرير - بالرد على استفساري عن السبب، بأنه فوجئ مثلي(!) مؤكِّداً أنه مجرد خطأ أدى إلى احتجاب المقالة عن هذا العدد وستنشر في العدد الذي يليه..

بدا الأمرُ طبيعياً وقتها، بينما الحقيقة التي استشعرتها لاحقاً، هي أن مقالتي تلك قد احتجبت من تلقاء نفسها، وبإرادة من ذاتها، احتجبتْ (حِداداً) على وفاة الزميلة القديرة الكاتبة الأخت الغالية فريال الحوار، التي فارقت الحياة في ذلك اليوم تماماً..

أقل شيء نفعله حين يموتُ عزيزٌ هو أن نصمت حداداً لنترحّم عليه في قلوبنا، ولأنني لم أعلم بخبر الوفاة إلاّ وأنا أبعد كثيراً عن الرياض، ولم يكن بوسعي أبداً - حتى لو ركبتُ صاروخاً - أن أصل مع صلاة العصر لتشييع جنازتها والصلاة عليها، ولأنني كنتُ في حالة من الحزن القاسي على فقدان هذه الأخت الطيبة، كان لا بد أن أعلن الحداد بطريقة ما، ولكن كيف؟ الآن فقط عرفتُ أن مقالتي تلك، المعنونة (موسيقى.. تتصاعد.. تتلاشى) قد أعلنت الحداد - على طريقتها التي تفوق طرائقي - باحتجابها عن الظهور في ذلك اليوم، من أجل أن تقول لفريال (وداعاً) في صمت.. فللمقالات، أحياناً، مشاعر وحواس ومواقف تتجاوز قدرة كاتبها.. واحتجاب مقالتي في ذلك الخميس ونشرها في الخميس الذي يليه كان له دور إيجابي أيضاً، فحدّة توتري وشدّة فجيعتي وحزني الطاغي لحظة استقبالي للخبر الصاعق بالنسبة لي، كان من الممكن أن يجعل من مقالتي هذه مناحة ما بعدها مناحة لو أنني كتبتها وأنا في تلك الحالة من الانهيار والألم..

كانت فريال الحوار، رحمة الله عليها، مهمومة بطموحات ثقافية لم تسمح لها ظروفها أن تنجز سوى الجزء اليسير منها.. فبين انشغالها بمرض زوجها الذي سبقها إلى الدار الآخرة بشهور ثلاثة فقط، تغمده الله برحمته وغفرانه،وبين عنايتها بابنتها - الطفلة الصغرى -وابنتها الشابة وابنها الشاب، أعانهم الله وصبّر قلوبهم على فقدان أبويهم في فترة كأنها غمضة عين؛ تركت فريال أثراً ثقافياً سيبقى.. فقد كتبت في قضايا فكرية كونية وفلسفية تاريخية ومعاصرة، ونشرت في مطبوعات محلية وعربية محكمة، ومواقع إلكترونية مرموقة، وساهمت في عدد من الملفات التكريمية التي أصدرتها (الجزيرة الثقافية) عن شخصيات كبرى كانت حاضرة بيننا، وسعدت بتكريمنا لها، مثل: الدكتور مصطفى محمود، والدكتور غازي القصيبي،والأستاذ عبد الله الجفري، رحمة الله عليهم جميعاً..

وكانت المرحومة بإذن الله، فريال الحوار، حريصة على الالتزام بمعاني (الوفاء) للأدباء والمثقفين، بخاصة الكبار منهم ومن توفاهم الله، وكيف لا وهي مثقفة وأديبة ومتذوقة رائعة للإبداع بكل أشكاله.. ففي العدد 265 بتاريخ 5 يناير 2009 من هذه (الثقافية) كتبت فريال الحوار مقالة بعنوان (كفوا أيديكم عنا) دافعت فيها بصدق وإخلاص عن الأديب الراحل عبد الله الجفري - رحمة الله عليه - حين هاجمه ناقدٌ مشهورٌ بعد رحيله بأسابيع قليلة، متهماً إياه بما ليس فيه بغية التقليل من شأنه وتهميش القيمة المستحقة لمنجزه الأدبيِّ الراسخ في ذاكرة الأدب العربي الحديث، فكتبت فريال مقالتها المنصفة للراحل الجفري وختمتها بقولها: (ما الذي سيضيفه الناقد هذا بتعرية مبدعنا العظيم بعد رحيله، وكشف لحائه الأدبي بهذه الجرأة واقتحام عوالمه بمشرط قاسي الحدود، لا سيما وأن النزف لن يكون إلا من دمائنا، بعد أن أصبح المعني في ذمة الله..)

وفريال الآن قد أصبحت في ذمة الله، فأسألك يا الله أن تكرم مثواها وتنزلها منازل الصديقين والشهداء والصالحين، وأن تجعل قبرها روضة من رياض الجنة حتى تبعثها آمنة مطمئنة وتدخلها جنتك يا أكرم الأكرمين..

ولا يسعني، بعد الدعاء، سوى العزاء.. فأعزي بناتها وابنها فهد وشقيقتها الدكتورة نوال وشقيقها الأستاذ عدنان وكل من لا أعرف اسمه من أسرتها الكريمة التي عزيتها بالأمس في وفاة المرحوم خليل زوج فريال واليوم أعزيهم بما أعزي به نفسي في وفاة أختي فريال، وأعود فأسأل الله السميع المجيب أن يلهمنا جميعاً الصبر والسلوان، ويمنحنا القدرة على مواصلة الدعاء لها والصدقة عن روحها، فقد كانت من دعاة الخير والسلام للإنسانية كلها، صادقة مع نفسها والناس، مؤمنة بقضاء الله وقدره.. كما سنبقى نحن بإذن الله مؤمنين. فارحمها برحمتك يا أرحم الراحمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ffnff69@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة