Culture Magazine Thursday  13/06/2013 G Issue 410
فضاءات
الخميس 4 ,شعبان 1434   العدد  410
 
«القصة القصيرة جداً» (ق.ق.ج)
علي الدميني

 

تبدو تسمية «القصة القصيرة جداً» ذات ثقل توصيفي طويل، ولذلك أرى أن جبير المليحان قد سكّ تسمية مناسبة جداً، وضعها عنواناً لمجموعته التي تنتمي لهذا الحقل، حين أسماها «قصص صغيرة» وصدّرها بتقدمة بعنوان «لماذا.. صغيرة؟»، وقد اعتمدتُ هذه «التسمية» في كتابتي هنا، وأقترح تبنيها بدلاً من قصة قصيرة جداً، أو (ق.ق.ج) التي تذكرنا بمختزلات «السي آي أيه، أو الكي جي بي»!!

ويحضرني هنا الدكتور عبدالله الفيفي، الذي كتب قراءات عديدة عن «تماهي الشعري والسردي « في الرواية السعودية، وعن تداخل القصة الصغيرة مع قصيدة النثر، واقترح تسميتها بـ «أقصوصة» (المرجع - مدونة الناقد)، ولكنني لا أميل إلى ذلك، لأن إيقاع الكلمة ودلالاتها تتضمن التبخيس والانتقاص منها، حيث ستكون على وزن «أضحوكة»!!

أما الدكتور حسين المناصرة فقد قال عنها: «إن هذا النوع من القصص يندرج في تناص عميق مع نصوص الحكمة، والمثل، والنكتة، واللغة الجامعة، والنزعة البلاغية المحضة، ضد أي فوضى لغوية» كما أوضح بأن القصة بهذه الكثافة» تولّد لدى القارئ حالات الصدمة والانفعال والدهشة، واللذة والتشبع بشاعرية التوتر الناتجة عن الرؤى والدلالات والموسيقى». ويذهب أيضا إلى أن السمة الجوهرية في تشكيلها يرتبط بالقصر والكثافة، مثلما يرتبط الشعر بالموسيقى، وأنها ينبغى ألا تتجاوز خمسين كلمة لتحافظ على نموذجية خصائصها كنوع متمايز ومختلف عن فنون السرد الأخرى. (المرجع مدونة الناقد - القصة القصيرة جداً: رؤى وإشكاليات)

كما يتحدث عنها جبير المليحان في مقدمته لهذه المجموعة بقوله إنه «يحسها (صغيرة فعلاً).. إنها كنفس عميق جداً، ليست حكمة، ولا لغزاً، إنها شفافة وعميقة كالشعر، ولكنها فاجعة مثله، وبها لوعة وبكاء وحزن،.. إنها ألم في القلب، أكبر من الوخز، وأصغر من عملية جراحية. هي كطعنة خنجر، صغيرة وقاتلة!

ويضيف أيضاً: إن أسلوب القصة القصيرة يعتمد على المفردة وليس على الجملة. فالكلمة في معادلة الأسلوب هذه لا مكان لها إذا كان يمكن الاستغناء عنها»

ويرى أن النموذج المثالي لهذا النوع من القصص يمكن أن يكون في سطر أو سطرين، أو عدة أسطر قليلة تكتمل بنهايتها القصة».

وبذلك، تكاد القصة الصغيرة في نموذجها اليوم أن تتقاطع أو تتطابق أحيانا مع قصيدة النثر القصيرة، فهي لا تقول ولكنها تحيل ولا تسرد ولكنها تقود إلى إمكانات مفتوحة لدلالات المعنى العائم خارجها وهي لا تعبر عن التكوين الخارجي وإنما تحفز على النظر إليه.

إنها علامة عائمة أو أيقونة مشعة، تستحثنا على البحث عن المعنى الذي غيبته وتدهشنا بالمعنى الذي لم تقله، وظلت شاهداً في حضورها على غيابه.

هي قصيدة هاربة إلى فضاء السرد، ولكنها ستظل منتمية لفضاء القصة، طالما حافظت على الإشعاع الذي يتسلل من عباءتها السردية.

مجموعة «قصص صغيرة»

في هذه المجموعة التي حوت خمسين نصاً، كتب أولى قصصها في عام 1976م، وتتابعت بشكل مستمر منذ عام 1991م حتى 2008م، نرى أن جزءاً منها يتعالق مع أسلوبه في كتابة «القصة – القصيدة»، مع ميل واضح إلى التخفّف من البعد الاستعاري للغة، واتجاه واضح إلى توظيف البعد الكنائي في بناء الجملة، واحتفاظ بعض نصوصها بالطول النسبي، والذي قد يتجاوز الصفحة الواحدة.

أما غالبية نصوص المجموعة، فقد انتمت إلى مناخ القصة الصغيرة» من حيث، الكثافة والوجازة والقصر، حيث لا تتجاوز أغلبها ثمانين كلمة، وتتسم بالخصائص التالية:

- التجربة والتجريب، حيث يظل في مختبره القصصي، باحثاً عن إمكانات كتابة نص مختلف ومتجدد، يفيد من تجربة المرحلتين السابقتين، التي أبدع فيهما، (القصة – القصيدة) وما «بعد النموذج المثالي»، وفيما أضافه إليهما من شعرية امتزاج مكونات المرحلتين.

- الكثافة والتركيز على اختيار الكلمة المناسبة، والاقتصاد في التوصيف، وإدماج حالة الحكي في مناخ جديد، والاهتمام بالبعد الكنائي للعلامة اللغوية، كدال على شيء محدد، دون إثقالها بالوصف والتصوير.

- توظيف إحدى أبرز خصائص الشعر، وهي الانتقال والمجاورة، والتركيز على جمالية عناصر المقابلة والمفارقة والإدهاش والسخرية، التي تغري القارئ للدخول كشريك فاعل، في بناء الدلالة الكلية للنص ومقرؤياته المتعددة.

- تسمية القصة التي تتكون غالباً من كلمة واحدة، تتضمن أبرز مفاتيح القراءة وتوجيه الدلالات.

- التركيز على توظيف شخصية بسيطة أسماها (عبد الله)، وكتب عنها عدداً وافراً من النصوص. ولعلها في هذا التواجد الكثيف تحيل إلى شرائح عريضة من المجتمع، يكون (عبد الله) رمزها ومفتاح التعرف على مكونات وعيها وثقافتها الاجتماعية العفوية والبسيطة، والمعبرة عن خضوعها لسلطة الثقافة المهيمنة ومحمولاتها الكثيرة، الممتدة من العفوية إلى الألم وحتى آفاق الحلم، حيث يغدو عبد الله كأيقونة كاريكاتيرية، تذكّرنا بالراحل «ناجي العلي» وأيقونته الدائمة «حنظلة»، ولكن بلغة إيحائية هامسة وبعيدة عن جلبة الشعار.

- وجود عنوان واحد يعمل كمظلة رئيسية لعدد من القصص الصغيرة، بعناوينها الفرعية، مثل «حبس» ويضم 9 قصص، و»الطفل يريده... اللون الأبيض» ويضم عشرة مقاطع عن الطفل، ولكنها بدون عناوين فرعية. ثم يأتي العنوان الذي ضم تحت جناحيه، أكبر عدد من النصوص، تحت عنوان لافت هو «رثاء»، مع وجود عنوان خاص بكل قصة، حتى أن شخصية (عبد الله) أيضاً، قد وجدت متسعاً لها تحت تلك المظلة!!

لذلك أرى في هذين التشكيلين، إضافة إلى العدد الكبير من قصصه الطويلة، ما لا يشير -وحسب- إلى نزوعه الدائم للتجريب واكتشاف الممكنات المختلفة لإبداع القصة، ولكنها تعبر عن رغبة دفينة وكامنة في وجدان القاص، عجز عن الإنصات إليها حتى الآن، وهي تستحثه على كتابة نصه الروائي المنتظر!!

وسنرى تجليات تلك الخصائص في بعض القصص التي نعرض لها فيما يلي:

1- « طيور وأسماك»

يستخدم القاص أسلوبه الغرائبي في تشكيل القصة، كرافعة لعناصر المقابلة الساخرة، وينجح في غالبيتها -وليس في جميعها - في لفت انتباهنا وإدهاشنا بذلك الكم الهائل من الإشارات المفتوحة على قراءات اجتماعية وثقافية وسياسية، رغم أن النص لا يتجاوز عدة أسطر.

«عدنا من البحر، بعد يوم طويل. لم نصطد سمكة. وأنا أقترب من البيت فرّ كثير من النوارس من فوق برميل القمامة بجانب الباب. رفرَفت قريباً، وأنا أنظر إليها، ثم بدأت تحطّ حول براميل الجيران.. والجيران.. والجيران «!!.( قصص صغيرة – ص 9)

هل قال النص شيئاً؟ هل وجّه التهمة إلى أحد؟

لا....

فقد ترك الباب مفتوحاً أمامنا فقط، وذلك يذكرنا بقول الماغوط في إحدى قصائده: «لا أحد في الشارع لا أحد في البيت». لقد مات الإنسان عند الماغوط وهنا يموت البحر، عند جبير، لأن الناس أكلوا البحر، قضوا على المعنى الكامن في حياته وحيويته، فتسلّلت النوارس، رمز الشعر والصفاء، كالقطط، لتأكل من براميل القمامة أمام بيوتهم!

2- «منيرة»

( لعبة المتن والهامش)

صورة حلمية للسيدة «منيرة» وهي تودع زوجها، وتربط حزامها وحزام صغيرها، متجهة بسيارتها من الرياض إلى الدمام!

هذه الصورة البسيطة والطبيعية في النص، وفي كل أرجاء العالم، لا تقول شيئاً أبدا، ولكنها تتحول خارج النص إلى فنتازيا، يشير إليها الهامش بقوله: «منيرة واحدة من السيدات اللائي قدن سياراتهن في الرياض عام 1990م».

وهذا الهامش يهيئنا لنبش الذاكرة وتعقيدات الواقع، وتذكّر ما نالته هي وزميلاتها وعوائلهن من أذى. ورغم ذلك فقد سارت الكثيرات على نهج منيرة ورفيقاتها، فتعرضت إحداهن للسجن، فيما تحاكم اثنتان منهن اليوم، في محكمة الخبر، بتهمة المطالبة بحق المرأة في قيادة السيارة!!

3- « شجرة»

في هذه القصة، التي استخدمت الفنتازيا» والتعبير الشعري المقتصد، في الوصف والإحالات، ترتسم صورة لا يمكن أن تعبر عنها حكاية طويلة. وأمامها أتساءل: هل يمكن أن نقع على صورة شعرية أو خيالية تفسّر لنا معنى «الهوية»، أو معنى ارتباط الإنسان بأرضه، بأجمل وأصدق مما نراه في هذه القصة؟

« مدّت الشجرة أغصانها كأعناق النوق حتى تكشّف الشارع من علٍ:

شارع واسع كالح، ومغبرّ، يملؤه ضوء زائد، وكثير جداً، حار ..شديد الصفرة. حاولت الشجرة النهوض بجذورها، إلى مكان آخر.. الجذور تتغلغل في طيات الأرض.. حاولت.. عندها استدارت الشجرة، ولملمت الشارع، ووضعته في حضنها.» ( قصص صغيرة – ص19)

4- «اثنان»

لا ينشئ «اثنان»، متجاوران، علاقة إنسانية أو نفسية محددة، داخل المنزل أو في الشارع، إلا وفق منظورين حاسمين: إما الارتياح والمحبة، وإما النفور والبغض.

عن علاقة المحبة، يقول الشاعر الجاهلي (المنخلّ اليشكري):

وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري.

وعن علاقة « الكره»، يقول سارد النص عن جاره الذي يجلس أمام داره ليراقب الناس ويتابع حركاتهم:

« لكنه (يشير الضمير إلى الحمار البريّ الذي استأنسه وربّاه في بيته) يرفع نهيقاً حاداً، عندما يمرّ بجاري الجالس أمام بيته، حيث لم نتحدث منذ سنوات»!! (قصص صغيرة – ص 38).

وأنا كقارئ لهذا النص، لن أعقّب عليه إلا بضحكة طويلة، حيث إنني أجهدت نفسي طويلاً في التعرّف على «حمار « القصة، ولكنني لم أفلح في ذلك!

5- المبنى (الفنتازيا والواقع)

«قمت وفتحت الباب الحديد ومنه خرجتُ، وركبت سيارتي وسيّرتها»

هذه الحركة تؤكد تصميم شخصية النص على كسر رمزية الباب الحديد الذي يذكّر بالزنزانة.

لم يودّع المبنى، ثم مضى.. ولكنه رآه في مرآة السيارة:

« إنه يتبعني!!

- لا بل إنه يتعقّبني!! «

مدّ يده وأمسك بالمبنى، وحطّمه، ووضع ركامه بجوار برميل البلدية الكبير!

ثم قاد سيارته مبتسماً، ولكن المبنى قام منتصباً، وتبعه حتى جلس على المقعد الأمامي للسيارة بجانبه!

تكسير المبنى يضعنا في منطقة تأويل معيّنة، ولكن مقدرة المبنى على إعادة تشكيل هيكله من جديد، وركوبه بجوار السائق، يعطينا دلالات أخرى مغايرة!

لذلك يغدو هذا المبنى، سردية قصصية مفتوحة على أبواب التأمل...

فهل هو المنزل أو السجن؟

هل هو الزوجة

هل هو الحي

هل هو الوطن

هل هو تراث الماضي

هل هو الذكريات التي لا نستطيع الخروج من أسرها؟

النص هنا يركّز كاميرا تخييله على المبنى، دون أن يقسرنا على تبني معنى محددا، وفي هذا تكمن جماليات شعرية نص القصة، ودور الحلم أو الفنتازيا في تخصيب مجالات استقبالنا لها.. ذلك أننا لو مددنا فاعلية هذه الصورة إلى أقصى مدى، لوجد كل قارئ منا واقعاً معيّناً أمامه، متقاطعاً مع ما طرحته أسئلتنا من ممكنات، أو متصادياً مع أسئلة أخرى يفتحها النص بين أيدينا.

الدمام

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة