Culture Magazine Thursday  13/06/2013 G Issue 410
فضاءات
الخميس 4 ,شعبان 1434   العدد  410
 
عبد مأمور
عبدالله العودة

 

في التجربة الشهيرة التي تُسمّى (اختبار ملقرام) -و»ملقرام» هذا هو العالم النفسي صاحب

هذا المشروع- كانت طبيعة تجربة هذا الباحث هي إيهام الشخص المراد اختباره بأنه يدير عملية صعق لشخص آخر حتى الموت بناءً على أوامر الدكتور الكبير.

كان الشخص المستهدف الذي يقام الاختبار عليه لا يعلم بحقيقة الاختبار ويظن أنه بالفعل يساعد دكتور متخصص.. فكان يأمره الدكتور بالإمساك بمقبض الكهرباء الخاص بالصعق.. ويأمره الدكتور بممارسة هذه الصعقات الكهربائية على أشخاص مختلفين.. كلهم يمثّل في النهاية لقياس مدى استجابة «مساعد الطبيب» هذا وخضوعه لأمر الطبيب حتى في أمر غير أخلاقي على الإطلاق..وهو صعق أناس أبرياء أو التسبب في وفاتهم لمجرد أن «الدكتور أمر بذلك».

بطبيعة الحال تلك الصعقات هي مجرد خدعة لاختبار ردة فعل هذا الشخص الذي يدير تلك التجربة ويمسك بمقبض الصعق ليديره وفقاً لأوامر الطبيب.. المهم أن كثيرين خرجوا من تلك التجربة مرضى بالفعل وغير مستقرين نفسياً، بل وآخرون أُصيبوا بأدواء نفسية مستديمة جراء ذلك الاختبار.

الباحث -في المقابل- خرج بنتائج مهمة في الأخير يقول فيها بأن الإنسان في طبيعته ليس ميالاً لقتل الآخرين لمجرد الرغبة كما يعتقد بعض الناس، بل هو في الغالب بنسبة 75% قد يقتل الآخرين؛ لأن أحداً ما أعلى منه مرتبةً يأمره بذلك!

وحلل بعد ذلك عقلية معظم مساعدي هتلر في عمليات الحرق والإبادة بأنهم يبررون ذلك بأنهم كانوا يحسون بأنهم يحمون بلدهم بهذه الطريقة ويطبقون أوامر النظام.

هذه النتيجة الصادمة تخبرنا شيئاً مهماً قد يبدو واضحاً.. هو أن الذين يمارسون قتل الشعوب.. وسحق الناس وقتل النساء والأطفال وارتكاب أفظع الجرائم الإنسانية في التاريخ والعصر الحاضر.. هم يفعلون كل ذلك ليس ببساطة لأنهم «حاقدون» بل لأنهم في الغالب ينفّذون «الأوامر»؛ أوامر أشخاص أعلى مرتبةً وهيئة.. لأجل كل هذا فهؤلاء الذين «ينفّذون الأوامر» الإجرامية والقمعية قد يصبحون بهذا المعنى يحملون مسئولية أخطر تجاه الجريمة لأنهم اليد المباشرة لها.. فلولاهم لم يستطع أي مجرم سفاح أن ينفذ أي أمر أو يمارس أي جريمة بحق الناس وشعبه.

لذلك يروى عن ابن تيمية أنه لما كان في سجن القلعة سأله أحد الحراس أن يسامحه لأجل ما يفعله بابن تيمية بحجة أنه «عبدٌ مأمور» فرد عليه ابن تيمية «بل سأدعو عليهم وبك سأبداً.. لأنهم لولاك ما ظلموا» وصدق لأن أخطر ما يفعله أي جلاّد هو ليس أن يأمر بالجلد بل أن ينفّذه المنفذون لأجل الطاعة الساذجة وبحجة أنهم «عبيدٌ مأمورون» ولذلك جاءت القاعدة العظيمة والمهمة في الشريعة الإسلامية كما في الحديث الشريف المتفق عليه «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق» فلا طاعة لملخوق في مخالفة قواعد الأخلاق في الخصومة وقواعد العدالة والحقوق المتفق عليها.

ولمّا تحدث الله عن فرعون.. تحدّث سبحانه عمّن فرعنه.. وعمن أتاح له آليات التفرعن..واستجاب له من الناس بشكل عام.. وعن أولئك الذين استجابوا للظلم والقمع والجلد والحرمان وفعلوا ذلك بسبب هذه الحجة السخيفة البلهاء «أنا عبدٌ مأمور».. فقال الله عن قوم فرعون «استخف قومه فأطاعوه».

وحين يبعث الله كل أحد يوم القيامة سيبعثهم فرادى ..خارج الهيكل والتنظيم الذي أطاعه «وكلهم آتيه يوم القيامة فردا» لذلك يقدّم الإسلام قيمة المسئولية الفردية بشكل أساسي «ذرني ومن خلقت وحيدا»، ثم تحدث الله عن تفكك تلك المؤسسات والجهات التي كان يتذرّع بها كل من يرتكب الجرائم باسمها وبسبب أنه عبدٌ مأمور فيها.. حين قال الله «إذ تبرّأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرّة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منّا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النار».. فمسئولية كل أحد في الآخرة لن تكون بحسب الرئيس الذي يأمر بالجريمة والظلم والقمع والاعتداء والتخويف والترويع والتجويع فحسب.. بل وعلى المرؤوس التابع الذي يعتقد كونه «عبداً مأموراً» حجة له عند الله والناس.

وفي تاريخ الأمم وتجاربها.. فكرة «العبد المأمور» تعني الخضوع والعبودية المطلقة التي تهيّئ للطغيان.. ولم يذكرها في التاريخ إلا أمثال الحجاج حين قال «إن عليكم لبني أمية طاعةً لا مثنوية فيها» بمعنى لا استثناء فيها ولا شروط ولا تحفظ.. فشنّع عليه كل أئمة عصره ومن بعده على هذه المقولة التي لا يقولها إلا فراعنة كل عصر الذين يبنون مؤسسات دولهم وأمنهم على قاعدة «عبد مأمور» وليس على قواعد العلاقات التعاقدية العادلة بين الدولة ومؤسساتها وبين الناس والمجتمع.. وفرق بين هذا وبين الطاعة التعاقدية المتبادلة المشروطة بطاعة الله في تطبيق قواعد الحق والعدالة في مثل قول الصديق رضي الله عنه «أطيعوني ما أطعت الله فيكم» التي قامت عليه العلاقات الأكثر عدالة في المجتمع المعاصر بين أي دولة في العالم وشعبها..

ومتى ما بقيت مفردة «عبد» في جملة «عبد مأمور» فإن العبودية السياسية هي صانعة الطغيان، والاستخذاء هو سبب الاستبداد، ولن تكون الأوامر أكثر عدالة وحرية ومسئولية إلا حينما يصبح الإنسان المواطن «حراً مأموراً» في صياغة تعاقدية متبادلة مشروطة ..لا «عبداً مأموراً».

abdalodah@gmail.com الولايات المتحدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة