Saturday 14/12/2013 Issue 421 السبت 11 ,صفر 1435 العدد
14/12/2013

قراءة موضوعية فنية (1-2)

يقول الله سبحانه وتعالى: (.. حتَّى إذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أربعين سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أن أشكر نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ علي وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سورة الاحقاف - الآية 15

الأربعون: النقطة التي تفرض التساؤل ولا تجيب عنه، تقترح السؤال وتنحي الإجابة بل لا تكترث بها ولا لها، ولا تفترض أصلاً وجود الجواب.

هل هي مرحلة الانتماء؟ أم هي مرحلة ترفض الانتماء؟ هل بلوغ الأربعين يعني الاكتفاء أم الإقبال بإصرار أكبر؟ هل هي الجشع والانتظار أم هي الوصول وموت الانتظار؟

أسئلة كثيرة ولا جواب.

وفي هذه الورقة مزجت القراءة الموضوعية بالفنيَّة وقرأت النصوص وفق موضوعاتها، مشيرًا - غالبًا- لبعض الجوانب الجماليَّة فيها.

هي ورقة مزجت الأربعين - الرؤية، بالأربعين - الفن وقسمت الورقة لمسائل وكل مسألة تحمل رؤية وحاولت فيها أن أكون دقيقًا واضحًا وأن أجعل الشواهد لتلك المسائل؛ لأصل بها ومعها لغاية أقررها في عنوان كل مسألة، في هذه الورقة اعتمدت نصوصًا من مواقع على الشبكة العنكبوتية كموقع أدب وموقع اتحاد الكتاب العرب، وبوابة الشعراء، وبعض المواقع الصَّغيرة لتوثيق نسبة النص لصاحبه.

وما بعد مر الخمس عشرة من صبي

ولا بعد مر الأربعين صباء

(أبو العلاء المعري)

هذا هو المنطلق المفترض من خلال الآية الكريمة، والمعري يَتَّفق فيرى أنّه ليس بعد مرور الأربعين من صبا؛ إِذْ هي مرحلة النضج، وللحقيقة فلا توجد - حسب زعمي - في دفتر الحياة نقطة أشد حرجًا من الأربعين، فبعضنا يراها نقطة اليقين، وآخرون يرونها نقطة التجدد.

وهي تمثِّل اليأس والخوف لدى بعض الناس، في حين هي نقطة الانطلاق والتحرر لدى آخرين. هي نقطة تقف شامخة أمام مرحلتين: (الشباب والهرم)، تقف باسمة للبعض أو كما يرونها، وفق تطلعاتهم وأحاسيسهم، وتقف مخيفة مرعبة لبعض آخر.

كثير من الأدباء كتبوا سيرهم الذاتية لما بلغوا الأربعين فلم؟، هل هذه الحقيقة تقرَّر شيئًا؟

أرأوا أنهَّم صار بمقدورهم الحكم حيث الرؤية أشد وضوحًا؟، أم أنّه غرور يعتري المرء «فليس وراء الأربعين صباء»؟

مع الناس -كل الناس- هي نقطة مثيرة، فما بالك بها مع الشعراء؟، لا شكَّ أنها أكثر إثارة وأشد جدلاً، فالشعراء تحكمهم العاطفة فيطورونها لتكبر مشكِّلة أزمة أو نقلة بين الحياة والموت.

الأربعون - إفاقة متأخرة (الصدمة):

بلوغ الأربعين مثير ليس كمثله شيء، فلا الثلاثون ولا العشرون ولا حتَّى الخمسون تحمل الإثارة ذاتها، ويتساءل الشاعر هنا: أحقا بلغت الأربعين؟، أأنا - ذلك الطفل الغر - الآن تجاوزت مرحلة طيش العشرين فمرت دون جدل، ومرحلة ثقة الثلاثين ومرت دون قلق، لأصل الأربعين؟

هكذا يكون السؤال لدى الناس الذين يملكون حساسية مفرطة وإحساسًا بالزمن، فكيف يصوغه الشعراء؟

يقول فاروق جويدة:

أنا لا أصدق أنني

أمضي لدرب الأربعين

الطفل يا أماه

يسرع نحو درب الأربعين

الطفل وليس الشاب يعيش الانطلاق من مرحلة الطفولة لنقطة الأربعين، ولا وجود لنقاط الطيش والشباب، يتجاوزها كلّّها دون اكتراث فالشاعر يَرَى أن الطفولة نقطة مثيرة تعقبها الأربعون، وما سواهما لا وجود له في خريطة التساؤل هنا.

هنا تبدأ الفقرة لتكون تلك (الأنا) الموضع الأكثر أهمية، والحديث موجِّه للأم ليأخذ طابع اللجوء خوفًا، فهي صدمة والأم هي الملجأ، وذلك الطفل لا يسير ولا يمضي بل (يسرع)؛ وهنا إشارة لاستمرار الإسراع فالطفل ما زال عالقًا بقناعته، والنتيجة: مرَّت السنون دون انتباه أو ملاحظة فالمحطتان هما: الطفولة فالأربعون ولا محطة في المنتصف، وهذا الاختزال للعمر يعكس مقدار الصدمة بوضوح.

ويقول المنفلوطي:

أنا لا أصدق أنني

كهل بلغت الأربعين

ضيعت أحلام الشباب

وكن في حرز مكين

وطويت أجنحتي على

وعد كعطر الياسمين

كلا الفقرتين الشعريتين تبدآن بـ «أنا لا أصدق»، والصدمة حاضرة هنا وهناك غير أن المنفلوطي يصف نفسه بالكهل في تسليم أكثر من جويدة، ويستخدم الأفعال بصيغة الماضي فالأمر قد حسم وتم.

الأربعون - الهلع:

للأربعين هيبة وهي تحمل شيئًا مذهلاً وكأنها النذير بمغادرة الشباب، ومن ثمَّ الحياة برمتها هي هنا النقطة الأكثر رعبًا والأشد قسوة، فالنذير صريح والقرائن ظاهرة والحقيقة بينة، ومع أنها نقطة بلوغ الأشد فهي نقطة الهلع، هذا يوسف عبد العزيز(*) يقول:

(*) في بعض المواقع ينسب لملك عبد العزيز.

وحده

في النفق المظلم

ذئب الأربعين،

يملأ الأرض عواء

ويشم الميتين

وهذا الذئب يستخدم له الشاعر الفعل المضارع لا الاسم، فهو يملأ ويشم وليس مالئا وشاما، فالعملية متجددة والهلع مستمر والرعب حقيقي. فالأربعون ذئب، والذئب يتربص وينتظر؛ لينقض على فريسته، والأربعون مملوءة عواء، والناس الذين بلغوها أو بلغتهم ميتون.

يقول عبد الرزاق عبد الواحد:

كأنك في خيمة الأربعين

تخلّع أوتادها للسفر

وتجمع للدرب زاد المقل

كفاف المنى وطويل السهر

على أن في قلبك المستفز

جناحًا يغالب أن يؤتسر

وفيك وإن لم تفه صيحة

يطول مداها ولا يختصر

مضى ما مضى منك والقادمات

تضيء قناديلها للكبر

وَكم ذا تُكابِرُ والأربَعون

ذ رىً كلُّ ما بعدَها مُنحدَرْ؟!

فالأربعون هي القمة أو الذرى، لكن باعتبار ما بعدها لا ما قبلها، فما قبلها باعتبار مضمون النص قمة بالنسبة لها، وهي قمة لما بعدها وكأننا في تدرج ظاهر من القمة فالسفح، ثمَّ الهاوية.

الأربعون إذن سفح - مرحلة ما بين مرحلتين على طريقة المناطقة، فهل هناك نقطة أشد غموضًا من نقطة لا تنتمي؟

بدأت الفقرة بأن الأربعين خيمة والمفترض هو الأمن والاستقرار، فإذا بالنص يجعلها خوفًا وتلك الصيحة التي لم يفه بها طويلة تناسب عمق الموقف.

يقول عبد الله البردوني:

وكان يرنو وجوع الأربعين على

ذبول خديه، يستجدي ويرتجفُ

وهذا الذبول دون ريب يمثِّل هلعًا للشاعر، بل يدعوه أن يستجدي ليس هذا وحسب بل هو يرتجف فما سر تلك الرجفة؟، وما الداعي لها؟

أحسبه هلعًا كبيرًا خالطه الجوع ليعبث بقلب الشاعر الكبير، وللأفعال المضارعة حضور هنا أيْضًا، وللاستمرار موقف ثابت، لكنه قبل ذلك (كان) فما حاله الآن؟

الأربعون تفرض الصمت هنا فهو قد (كان) وحسب.

- الرياض