Saturday 14/12/2013 Issue 421 السبت 11 ,صفر 1435 العدد

نيكولا دو ستيل

إلى رولا رياشي

(1)

لم أكن على علم مسبق، أن رحلتي من باريس الى فيينا في القطار ستكون بهذا القدر من السوء. لقد قضيت جلَّ وقتي في العقد الأخير من حياتي وحيداً. هذا لم يكن يزعجني، على عكس ذلك، كنت فرحاً، وأحياناً في غاية السعادة من هذه الوحدة التي أتاحت ليَ التركيز في مشاريع القراءة التي لا أزال مستمراً بها. الكتب مهما كانت أحجامها ونوعياتها، شريكٌ مميز لمواجهة الضجر والضحالة المعرفية. في الحدائق وصالات الانتظار، في البيت والمكتبة، على شاطئ البحر أو في أعالي الجبال وحتى في الغابات، الكتب رفيق مميز وصامت لا يزعجُ ولا يثرثر إلا مع نفسه وصاحبه. أما في السفر فهي صديق ودودٌ يحرضُ على النوم بلا قرار مسبق. أقرأ بلا هوادة كما لو أن القطار يسير على جثتي حتى يصلُ الخدر الى كل أطرافي لأستسلم في النهاية الى النوم كما الأطفال الرضع في مستشفى الولادة.

كنت زرت مستشفى الولادة مع خالتي بعد ولادة طفلتها الثامنة.

نعم، أنجبت خالتي وهي أصغرُ أخواتها، أنجبت ثمانٍ من الإناث قبل أن تنجب طفلها الذكر الوحيد، الذي أطلقوا عليه اسم محمد تيمناً بنبي الإسلام الذي عاش يتيما ووحيداً. كان زوجها مصممٌ على مجيء طفل يرثُ اسمه ويتنقل به بين الأجيال. يكون عزوته وسنده ومصدر فخره بين أصدقائه والتأكيد الوحيد على أنه أبو محمد الذي كان يكنى به قبل أن يأتي الطفل. لم أكن أفهم كيف يمكن أن نفرح لطفل يحمل اسمنا بعد الموت، ما قيمة الفرح بعد الموت، فحين نموت نصبح أسياد العالم ولا يضيف لنا بقاء اسمنا الى جانب اسم الطفل أي شيء. ما الجدوى الفعلية من تهميش ثماني بنات جميلات ومنتجات وذكيات فقط لمجرد أن وجود الطفل الذكر سيضفي شعاعاً من الفرح العديم الجدوى. وحين قررت أن أنجب تمنيت أن يكون مولودي البكر بنتاً وهذا ما حصل. لطالما تمنيت أن يكون عندي بنتاً، ليس لأن البنات ( حناين ) كما يقولون في ثقافتنا الشعبية والمرويات. بل لأني مقتنع أن العالم دون الإناث عالم موحش وقاتل، وأنهن وحدهن القادرات على تغيير العالم نحو الأفضل. لهذا تمنيت بنتاً وربما لهذا جاءت كرمل التي أعطيتها اسماً من جغرافية فلسطين.

لا ليس هذا ما قصدته فقط من الاسم. الكرمل هو التلة المرتفعة المطلة على حيفا، وهو المكان الذي شهد لقاء المسيح بتلامذته بعد القيامة. وفي العبرية القديمة واللغة الكنعانية يعني (حديقة الله) وهو رمز من رموز ثقافتي أنا الفلسطيني الذي ولد خارج فلسطين وعرفها دون أن يراها وأحبها دون أن يراها أيضاً. كنت أريد لابنتي أن تحمل شيئاً من ثقافتنا، شيئاً من أصولها التي تعود إلى هناك، هي التي ربما بسبب ولادتها في الغرب لن ترى فلسطين أو تعرف عنها الكثير سوى ما سأقوله لها. لكن حتى ما سأقوله لها ربما يمحى من ذاكرتها، فيكون اسمها رابطاً بينها وبين الجغرافيا التي سلبت منا نحن الفلسطينيين، أصحاب الأرض وسكانها ورحيقها ودليل وجودها. كنت أحب أن أنجب بنتاً، وها أنا أنجبتها واكتفيت بها. سأتعامل معها بأنانية وأعطيها لها وحدها كل شيء اسمي وكتبي وأوراقي ورائحة تراب بلادي البعيدة واللوحة المطرزة بالتراث الفلسطيني التي أرسلتها لي هيام من الكرمل حيث تعيش. لا أريد ولداً ليحتفظ باسمي وينقله بين الأجيال بل بنتاً تحفظ كتبي ومكتبتي من التلاشي والضياع وهي بعد عشرين شهراً على ولادتها تحب الكتب.

أعود الى النوم الذي كنت أشاهده في تلك المستشفى مرتسماً على وجوه الأطفال وهم يتمسكون بأثداء أمهاتهم تماماً كما أتمسك بالقراءة حتى وأنا شبه نائم، وأحياناً مستغرق في نوم لذيذ. محطماً بهذا وطأة الوقت الذي يمضي بطيئاً في القطارات كما في الطائرات.

(2)

ليست رحلة سهلة، فيينا القريبة ستضعني في القطارات اثني عشر ساعة حتى أصل. هل تستحق لوحات Nicolas de stael كل هذه المشقة. غير مهم، يكفيني أن أشاهد أكبر مجموعة من لوحاته ثم أعود أدراجي الى باريس. كانت إمي تحب كليمت أما أنا فقد أحببت على الدوام الفنانين الأكثر تقشفاً في لوحاتهم. ستيل بالنسبة لي نموذج للفنان الذي حطم التكلف، يرسم دون تفاصيل، كسر الحاجز الذي يجعل من التفاصيل غرق اللوحة، جعلها مسطحة واضحة وجلية كما لو أنها طاولة الطعام.

ماذا سأفعل كل هذا الوقت. باريس شتوتغارت ثم شتوتغارت سالزبورغ ثم سالزبورغ فيينا. سأقرأ نعم، لكني سأنام أيضاً. سأقرأ وأنام وأقرأ وأنام. سيتيح لي التجول بين القطارات فرصة لأرى ما لا يرى سوى في رحلات كهذه. ثم إنها رحلة وعليَّ كما على غيري تقبل مشقتها. سأذهب إلى هناك، ليس علي أن أقرأ أناييس نِنْ سأصطحب كتاباً من هناك، من الصحراء الغارقة في شموسها وتقاليدها، ربما من مصر الموحلة أيضاً والملبدة سماءها بعوادم السيارات والتلوث والقباحة. لن أصطحب محمد شكري للمرة المليون لأقرأ روايته البديعة الخبز الحافي، السفر إلى فيينا الجميلة لن يساعدني على تقبل كل البؤس الذي يعيشه الفقراء جنوب المتوسط وشرقه. عليّ اصطحاب كتب تحرضني على الأكل والاستمتاع بالحياة، كتب مشرقة كوجوه كتابها. لطالما راودني الجوع في القطارات، دون القراءة أشعر أن عليَّ الجلوس في الكافتيريا، طوال الرحلة، والأكل الأكل طيلة الوقت. لكن هذه الرحلة البائسة لن تتوقف في بروكسل لأبتاع بعض الشوكولا التي أحبها من Pierre Marcolini وأتابع. مضى وقت طويل لم أتناول فيه المارس والتويكس وحتى دوائر شوكولا الأمير choco prince التي تناولت منها في طفولتي ما يوازي غذاء فيل صغير من الموز الناضج. بعد أن غرقت في عالم الشوكولا الحقيقية وقرأت العشرات من الكتب وزرت معارض الشوكولا التي تعقد سنويا في باريس وبروكسل وجينيف بدأت أنظر باحتقار شديد الى الأنواع التجارية التي أفرحتني في طفولتي وهي اليوم تقابل مني بالكثير من الازدراء والإهمال والتهميش. لكن لكي أكون واقعياً، عليَّ دوماً تذوق أصنافاً رديئة من الشوكولا في منازل الأصدقاء. أو في المقاهي التي تقدمها إلى جانب القهوة خصوصاً تلك الأنواع التي تكون عادة حبة من اللوز المحمص والمغلف ببودرة الشوكولا. وهذا النوع تافه إذ لا تتجاوز نسبة الشوكولا فيه العشرة في المئة وأنا هدفي هو الشوكولا دوماً. لكن هذا غير مهم، سأستعين بالكتب على الحرمان من الشوكولا. وحين أصل إلى فيينا سأذهب الى Cafe Centrale وأتذوق الشوكولا بالحليب كما نصحتني إليزابيث ميشيلاك أستاذتي التي كانت مثلي تحب السفر والتسكع بين الكتب.

(3)

في القطارات عادة ما ألتقي بعجوزة ثرثارة ولا يهمها التدخل وحشر أسئلتها في حياة من تواجهه أو تجلس بجانبه. لكن وبما أن الرحلة ستكون في ثلاثة قطارات، سيكون لزاماً تحملي رؤية آخرين الى جانبي. غالباً ما يكون الركاب مزعجين، لو كان الخيار بيدي لحجزت القطار كله لي، ولن يهمني ساعتها إن كان المسافرون سيصلون الى بلدانهم أم ينامون على أرصفة المحطة لانتظار قطار آخر. لكني تلميذ ولا تكفي المنحة التي تصلني لشراء الكتب والشوكولا والسفر ماذا أفعل لكي أحجز قطاراً كاملاً ربما الحل الأوحد سرقة بنك أو تحولي إلى أمير حقيقي لكي أشتري راحتي الأبدية في القطارات والطائرات وحتماً سأنتقل إلى اليخوت والقصور وربما بدل أن أذهب إلى المتحف سأطلب منه أن يأتي إليّ.

بالحقيقة، جزء من متعة السفر هو الركاب والمتطفلون منهم تحديداً. فغالباً ما تدور أحاديث تصل إلى قضايا أهمها من أين أنت وماذا تفعل وإلى أين تذهب. أسئلة همها الوحيد تزجية الوقت وهدره، وربما في أحيان كثيرة، تصل إلى علاقات لطيفة وإنسانية والى عشق وغرام وهيام ينتهي عند الوصول إلى المحطة. القطارات تشجع على الأحلام والتمادي بها. القطارات بداياتنا ونهاياتنا المرتجاة.

أقرأ في هذه الرحلة لثلاثة كتاب وكاتبة واحدة دفعة واحدة. كلما شعرت أن كتاباً من هذه الكتب لا يوصلني الى النعاس أذهب لآخر. الروايات العظيمة غير مملة لا تنيم القارئ. كان يجب أن أبتاع عدة روايات تافهة هشمها النقاد لكي أنام. الأدب الذي يبقيك يقظاً أدب عظيم لا شك. مع ذلك، في القطارات غالباً ما هزم النوم كل الأدب العظيم.

أصل الى فيينا بعد لأيٍ كثيرٍ وتعب. أصل إلى المتحف الذي يقفل أبوابه بعد نصف ساعة. لا أدخل، أتسكع قليلاً في المدينة القديمة، أدخل مقاهي وأخرج منها حتى أصل إلى الفندق. أنام وفي الصباح لقائي مع نيكولا دو ستيل صديقي الفنان الروسي الذي مات قبل نصف قرن.

سيمون نصار - باريس