Saturday 14/12/2013 Issue 421 السبت 11 ,صفر 1435 العدد
14/12/2013

لعبة تحضير الأرواح (4)

من خلال الأجزاء السابقة التي تناولت مواقع التواصل الاجتماعي سنجد أننا أمام ثلاث مشكلات هي؛ من المتحكم في من؛ الوسيلة الاتصالية أم الرسالة الثقافية؟ و ضبابية القيمة المحيطة بهذه المواقع و الفاعلية المنعزلة. وهي مشكلات يمكن القبض عليها من خلال الخطاب الناتج لمواقع التواصل الاجتماعي.

قلت في الجزء الأول من هذا الموضوع أن التحول من «النصية» إلى «الخطابية» هو تحول يقتضي التأثير على الآخر،و التأثير بدوره لا يتحقق إلا من خلال «حصول موقف». وفي هذا المقام يلزم منا أن نقف أمام سؤال من الآخر؟ سؤال أحسبه من ضرورات المعرفة التوثيقية قبل المعرفة التحليلية.

الآخر هو الذي يُؤسس «مفهوم التواصل الاجتماعي»؛فالتواصل هو التفاعل المشترك بين الثنائيات و التعدديات وهو لا يتحقق إلا من خلال «خطاب» و الخطاب هنا ذو مكتسب نوعي يتعلق «بالتعايش و التشارك الاجتماعيين»؛أي «أنا و الآخر» المختلف «أنا و أنت» المنظور « أنا و هو» الغائب و «نحن و الآخرون» و «نحن و أنتم» و «نحن و هم». واستيعاب ذلك المفهوم بكيفية تحضير و استحضار الآخر من خلال ما نفكر به و ما نقوله هو الذي يُمكن فاعل النص من صناعة الكفاية الخطابية لنصه.

ذكرت في الموضوع السابق إن توزيعنا على الخارطة الاجتماعية من خلال دوائر التشابه و التنافر هي التي تقسم الخارطة الاجتماعية إلى مجموع من الجزر المعزولة، وهذه الاستراتيجية لا تضر بمفهوم الآخر فقط إنما تضر أيضا بتقدير الأنا بالنسبة للآخر؛ فأي خلل يعتري مفهوم الآخر ينعكس ذلك الخلل على المقابل له الأنا.

فغموض مفهوم الآخر يقابله سطحية تعريف الأنا و إقصاء الآخر يقابله ديكتاتورية الأنا، و الاستخفاف بالآخر يقابله التطرف في تقدير الأنا. وهكذا كلما اشتدّت أزمتنا في توثيق الآخر اشتدّت أزمة عقدتنا مع الأنا.

و ذلك يتضح لنا من خطاب مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبح عبارة عن خلايا

لقد تربى وعينا الاجتماعي في السعودية على أن الآخر هو كل من يختلف عنا، وبذلك فشرط الانتماء للأنا هو التماثل بالتشابه، وشرط الانتماء للآخر هو الاختلاف، وتعريف الاختلاف وفق الشرط الخاص للانتماء إلى الأنا هو عدم التشابه. و التشابه هو المشاركة الحرفية بالعقيدة و المذهب و الشكل و اللغة و اللهجة و التقاليد.

و معايير التشابه هي التي أسست خطاب مواقع التواصل الاجتماعي سواء الممثل لغالبية الأنا أو لأقلية الآخر،فالتكفير و الضلال و الفسق و الفجور أحكام يتحرك فيها خطاب غالبية الأنا،و في المقابل فالتخلف و الرجعية و الظلامية والإرهاب أحكام يتحرك فيها خطاب الأقلية»الآخر».

والخطاب عند الطرفين لا يتحرك وفق حكم آحادي فقط إنما يتضمن لكليهما الجانب الآخر من الثنائية،فالضلال و الفسق و الفجور هو لتلك الأقلية»تنوير و نهضة و حضارة» و التخلف و الرجعية و الإرهاب هو لتلك الغالبية «نور و حق و هداية». وهكذا عندما نحلل الخطاب الناتج من مواقع التواصل الاجتماعي سنرى أنه خطاب يجمع بين ثنائيتي «الضفة و القيمة»، صفة الآخر و قيمة الأنا. أي أن الخطاب الناتج عن مواقع التواصل الاجتماعي يعتمد على ثنائية لعبة استحضار الأرواح.

وبذلك تضييق «الأنا» بتوسع الآخر،فالعقيدة ليست مسوغا في ذاتها للانتماء للأنا،إنما هناك المذهب الفقهي وبذلك يُصبح «المسلم الحنبلي» آخر بالنسبة «للمسلم الحنفي»، و «المسلم السنيّ» آخر بالنسبة «للمسلم الشيعي» و «السعودي النجدي» آخر بالنسبة « للسعودي الحجازي» و»المثقف المحافظ» آخر «للمثقف العلماني».

ولذلك لا نندهش عندما نرى تلك الجدولة و تفرعات أخرى نُقلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي و أرهصت لمجانية فكرة الصراع المباشر و تمزيق الأنا إلى مجاميع من الآخر، وأصبح ما يجب أن يؤسس لسلمية التعايش الاجتماعي بين المختلفين إلى وسيلة لتعزيز الانفصال و العزل الاجتماعي.

وهو نقل مما شك فيه أثر على ناتج مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة في غياب الرسالة الثقافية المعززة لأصل القيمة؛فما يلاحظ على الرسالة الثقافية- و أقصد بالرسالة الثقافية النص الصادر من المثقفين القادمين من الثقافة الورقية- أنها رسمت لنفسها استراتيجية «ردة الفعل» لا إنشاء الفعل، و بذلك وقع المثقف الورقي في صراع الثنائيات و المراهنة على الأغلبية الممثلة للأنا سواء بمناصرتها أو المبالغة في تقدير الآخر.

وهذه الاستراتيجية بدورها يمكن أن نحدد سببين لها؛ السبب الأول هو أن المثقف التقليدي في مواقع التواصل الاجتماعي هو الصف الثاني لا الصف الأول، وهو ما يعني أنه دخل لاستراتيجية مُؤسَسة فلم يجد أمامه سوى اتباعها، ولم يُفكر في تغييرها،مما جعله متبوعا في الأصل لا تابع.

و السبب الثاني وهو أيضا المتحكم في السبب الأول وهو «الأهمية العددية للمتابِعين»،فأصبحت قيمة الفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي تُقاس بعدد المتابعِين له، وكلما زاد المتابعون زادت قيمة الفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي.

وكانت هذه.

- جدة