Saturday 14/12/2013 Issue 421 السبت 11 ,صفر 1435 العدد
14/12/2013

معاني (إنّما) أم معاني الحصر بها (1)

تركبت (إنما) من (إنّ) الداخلة على الجملة الاسمية لتأكيد علاقة ركني الإسناد، ومن (ما) الكافة التي تكف (إنّ) عن العمل فلا يكون لها تأثير لفظيّ في الاسم فيعود مبتدأ كما كان؛ ولكنها من حيث المعنى ازدادت فضل تأكيد بأن حصرت أحد ركني الإسناد في الآخر، وهو أمر اقتضى أن يلزم المحصور والمحصور فيه موقعيهما في التركيب، وبكف (إنّ) عن العمل زال اختصاصها بالدخول على الجملة الاسمية فدخلت على الجملة الفعلية أيضًا، ودلالة (إنما) هي الحصر في الأصل، وهي دلالة سياقية بلا جدال؛ ولكن السياق قد يتضمن ما يخرجها من دلالتها الحصرية بشيء من التوسع كما هو الأمر في همزة الاستفهام التي قد تدل في سياق على غير الاستفهام من العتاب والتوبيخ والسخرية. وقد أهمت هذه المسألة الدكتور عادل حسني يوسف الأستاذ المشارك في (قسم اللغة العربية-كلية الآداب-جامعة الملك سعود) فكتب بحثًا قيّمًا عنوانه: «دائرة المعاني في (إنما) بين الكسب والهدر»(1)، ويذهب في بحثه هذا إلى أن لهذا الحرف معاني مختلفة تلتمس من السياق ومن الخير اكتسابها لا إهدارها، وبدأ الباحث الكريم بالإشارة إلى جهود العلماء في درس هذه الأداة ليدون جملة من الملاحظات منها أنّ أكثر جهود النحويين عنيت بإعراب الأداة إعمالها أو إهمالها، ومنها أنّ جهود الجرجاني في بيان معاني (إنما) أهدرت، ومنها أن المحدثين أهدروا رأي الفقهاء والأصوليين، وأنهم حاولوا ردّ الآراء إلى رأي واحد لكي لا تخرج (إنما) عن معنى الحصر، من أجل ذلك رأى الدكتور الكريم أن يجلّي المسألة فأدار بحثه حول ثلاثة محاور؛ الأول: عرض رأي القدماء من نحويين وغيرهم، والثاني: موقف عبدالقاهر ملاحظًا أثر نظرية النظم في مقاربته لـ(إنما) وتذوقه لشواهده، ومعه من يشبهه من أهل التفسير. والثالث: موقف علماء أصول الفقه.

أورد الدكتور في المحور الأول قول السيوطي عن (إنما): «الجمهور أنها للحصر، وأنكر قوم إفادتها، منهم أبوحيّان»(2)، ويرد الدكتور قول السيوطي الجمهور يعدها للحصر؛ مستدلًا بأن سيبويه لا يذكر الحصر بل التحقير، وبأن ابن السراج تابع سيبويه، وأورد قول البطليوسي إن لها معنيين عند البصريين التقليل والاقتصار، وذكر أن الجرجاني أورد لها معاني عديدة، وقال الدكتور بعد ذلك «وأظن أنّ هذا القدر من الآراء كاف لامتحان كلام السيوطي، وبيان أنه ليس في هذه الآراء، ما يعينه على التصريح بما قاله»(ص9)، والحقّ عندي أنّ هذا القدر من الآراء، لقلتها، لا يخلّ بما قاله السيوطي عن مذهب الجمهور، مع أنّ هذه الآراء - إذا أثبتت لإنّما معنى غير الحصر- لا تنكر الحصر؛ ولذلك كان الدكتور موفقًا في ردّ اقتصار السيوطي على إنكار أبي حيّان معنى الحصر في (إنما)، فأبو حيّان وإن أنكر دلالتها على الحصر ذكر إشعارها بالحصر وجاء بمعان أخر، والمتأمل لقول السيوطي يراه يذكر أنّ الجمهور يثبتون لإنما معنى الحصر؛ ولكنه لا يعني بالضرورة نفيه أنهم يرون استعمالها في غير الحصر؛ ومن ثمّ فالاستدلال بإهمال ذكر الحصر لـ(إنما) في كتاب سيبويه هو استدلال بدليل عدميّ، فتركه الإشارة إلى معنى الحصر لا يعني أنه لا يراها كذلك، فقد فات سيبويه من الأبنية ما استدركه لاحقوه، والموضع المستشهد به من نصّ الكتاب نصّ واحد جاء في سياق بيان حكم رفع الفعل أو نصبه بعد (حتّى)، إذ لا ينصب في سياق النفي، وكذلك ما هو مثله من التقليل، وهو معنى يمكن أن يستفاد من دلالة (إنما) على الحصر، فالمعنى المختلف هو للحصر بـ(إنما) وليس لها نفسها، كما يكون للاستفهام غير معنى، وإن لم تزل أداة الاستفهام عن معنى الاستفهام. وكما يخرج الاستفهام عن معناه الأصلي من طلب تعيين أو تصديق يخرج الحصر إلى معنى التقليل أو التحقير.

وشرح السيرافي نص سيبويه فذكر «أنّ (إنما) تكون على وجهين: أحدهما تحقير الشيء، والأخر الاقتصار عليه»(شرح الكتاب، 3: 215). ومراجعة استعمال الأداة في لغة الكتاب نفسه لا تبيّن استعمالها للتحقير بل للحصر. ومن أمثلة ذلك قول سيبويه عن الأفعال: «وإنما ضارعت أسماء الفاعلينَ أنَّك تقول: إنّ عبدالله لَيَفْعلُ، فيوافِقُ قولَك: لفاعل»(الكتاب،ص14)، وقوله عن الأفعال «وإنما هي من الأسماء، ألا ترى أنّ الفعل لا بدّ له من الاسم»(الكتاب، ص21)، وقوله «وأما يشكر فإنّه لا يكون صفة وهو اسم، وإنما يكون صفة وهو فعل»(الكتاب،ص22)، وقوله «وإنما يخرج التأنيثُ من التذكير» (الكتاب، ص22)، وقوله «وقولهم أسْطاع يُسْطيعُ، وإنما هي أطاع يُطيع»(الكتاب، ص25). فكل هذه المثل لا تخرج عن معنى الحصر العام؛ وإن أمكن أن نفهم من بعضها معاني أخرى للحصر مثل الإضراب في المثال: وإنما يكون صفة وهو فعل، فالمعنى: بل يكون صفة وهو فعل، وآية دلالة (إنما) على الحصر في كلّ مواضعها السابقة أنّا يمكن إحلال (ما) النافية و(إلا) محلها.

** ** **

(1) نشر البحث في مجلة الدراية (كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بدسوق، ع12، ج5، 2012م، ص2701- 2734. والجدير بالذكر أنّ أ.د. مها بنت صالح بن عبدالرحمن الميمان درستها في بحث عنوانه «(إنما) في السياق: التركيب والدلالة»، نشر في مجلة الدراسات اللغوية (مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية) المجلد الخامس العدد الرابع الصادر في شوال-ذي الحجة 1424هـ. ودرستها الأستاذة عزة علي الشدوي الغامدي المحاضرة في قسم اللغة العربية دراسة عميقة عالجت فيها تعدد معانيها، وهذا في رسالتها للماجستير بإشراف أ.د. وسمية عبدالمحسن المنصور وعنوانها (التقليل والتكثير في العربية: دراسة نحوية تطبيقية) عام 1426-1427هـ.

(2) ذكر الدكتور أنه في الأشباه والنظائر، 7: 224. والصواب أنه في معترك الأقران، 1: 138. والنص فيه «(إنما) الجمهور على أنها للحصر، فقيل بالمنطوق وقيل بالمفهوم، وأنكر قوم إفادتها، منهم أبو حيان». وأمّا النص الآخر فليس في معترك الأقران كما أثبت الدكتور بل في (همع الهوامع) 1: 192.

- الرياض