Culture Magazine Thursday  16/05/2013 G Issue 406
فضاءات
الخميس 6 ,رجب 1434   العدد  406
 
الأطفال والماء
علي الدميني

 

1ـ يوتوبيا الأطفال

لا يكاد يخلو نص من قصص جبير المليحان من حضور العلامة اللغوية « الطفل « ومترادفاتها ،كالأطفال والطفولة، إما كعنصر من عناصر البناء، أو أداة من أدوات التشكيل، أو كأحد أبعاد تكوين الدلالات وإمكانات تأويلها، و يستخدم كل ذلك لتجسيد فاعلية المقارنة و المفارقة و خضرة الأمل، أو كدليل علي سيولة الزمن و مقدرة فيضانه المستبد على نقل الإنسان من براءة التكوين وعذوبة الأحلام، إلى شتاء مرحلة الهرم والشيخوخة.

لذلك يغدو عالم الطفل أو الطفولة ، نصاً سردياً ينمو في أحضان «يوتوبيا»، تتبدى في تشكلاته مسارات حنين «العود الأبدي» إلى حميمية الأشياء ودفء «الأرحام» الولودة، سواء في متن النص أو في مجموعته التي كتبها للأطفال، أو في حضوره في بعض أهم عتبات النص وهو العنوان، من مثل « الطفل يريده: اللون الأبيض، و «أطفال»، و» الرقصة، الأطفال يلعبون».

كل هذا الإنهمام بالطفل والطفولة، وكذلك بالماء، في نتاجاته، سيعيننا على القول بأنه يشير إلى بنية مرجعية تقف خلف نظرية بنيانه القصصي، تذكّرنا بتلك البنى المتعددة التي اعتبرها نقاد الرواية مناخاً محفّزاً لكتابة النص الروائي، كالملحمية لدى لوكاش، والفرد الإشكالي في زمن الرأسمالية لدى جولدمان، والحوارية بكافة أبعادها لدى باختين، أو المسار الأسري لدى فرويد، وغيرهم من المفكرين والنقاد، ( فيصل دراج – نظرية الرواية والرواية العربية ).

وسنقف هنا على بعض تجليات تلك اليوتوبيا في الإشارات التالية:

الطفولة وشعرية القصة:

يحضر دال الطفولة، محتضناً دلالاته الإنسانية والوجدانية والرمزية معاً، سواءً كعنوان للقصة أو كأحد عناصر بنيتها، حين تتخفف من سردية الحدث و تشكيل الشخصية، وتذهب إلى فضاء التورية والمجاز الشعري، ومن أمثلة ذلك:

1ـ « نضحك كطفلين ، كالدهشة الواسعة، ونحن نجدف في قارب موسيقى.. حيث العالم» ( الغرفة- ص 51- مجموعة الوجه الذي من ماء)

2ـ « غيوم كثيرة ، وطليقة، لونها مثل العيون المرحة، أو الحالمة وهي تتدحرج، واحدةً واحدة، نازلة على أيدي الأطفال كسلاسل الحلوى، تراشق بها الأطفال ... تراشقوا حتى أتعبوا فرح الماء» ( عينان – ص 55 – المجموعة السابقة).

الإنسان كطفل:

في قصة « الطفل يريده: اللون الأبيض» ، سنتأمل هذا المقطع:

« قال المدرس :إقرأه

.... ولم يكن يريد...غير أنه قرأ

قال الأب :نم

.... غير أن الطفل نام

قال العسكري: سِر

... غير أن الطفل سار!»

هذه لوحة تشكيلية، تلعب فيها النقاط دور فجوات محفزة للقارئ لملء فراغاتها، ليصبح مشاركاً في إنتاج الدلالات الكلية للنص، وتأتي فاعلية «نحو اللغة» لتكمل اللوحة، في المقابلة ما بين فعل الأمر .. وطريقة الاستجابة.

«إقرأ، فقرأ شيئاً آخر .. نم، فنام على طريقته الخاصة.. سر، فسار أيضاً كما يريد «، بما يعطي للطفولة - كرمز- معنى القدرة على الاستجابة والتحايل عليها أو تحديها في نفس الآن! ( مجموعة قصص صغيرة – ص 34 – نشرت في المربد / الملحق الثقافي لجريدة اليوم، عام 1976م).

و سيلفت انتباهنا في عنوان هذه القصة « الطفل يريده: اللون الأبيض»، تقديم الفاعل و ارتباط الفعل «يريد» بمفعوله «الهاء» والمطلقة الدلالة من جهة، والدالة على تشبث الطفل بما يريده. وستتوارد على الخاطر مئات الصور للطفل الذي يصرّ على الحصول على شيء ما ، مهما كانت الظروف ومهما تعرض له من قمع، فيصرخ ويبكي وربما يلجأ لقذف كل من حوله بكل ما يجده أمامه من أشياء!

هذا الإصرار العفوي والطبيعي والبريء والحر للطفل، هو جوهر النص.

ولكن ماذا يريد الطفل؟ .. يريده: اللون الأبيض!

وما هو هذا اللون الأبيض؟

إنه، «الحرية». لأننا حين نرفع مستوى قراءة النص من بعده الواقعي إلى أفقه التأويلي، فإننا سنرى أن هذه اللعبة الفنية الجميلة، ما بين الصمت في النقاط.. واختلاف فعل الإجابة عن فعل الأمر ( نم ..نام، سر..سار) ، لم تعد إحالة على براءة الطفولة وحسب، وإنما تحيل إلى الإنسان / المواطن في صفائه وعفويته ورغبته في الحرية، قبل أن يتم استئناسه وتدجينه بفاعلية الثقافة المؤسسية في البيت وفي المجتمع أيضاً!

أطفال المستقبل:

في العديد من قصصه التي يمكن أن نضعها تحت هذا العنوان الدال، لا يأتي الأطفال إلى المستقبل لشغل وظائفنا القديمة، و لا للبس ملابسنا المصبوغة بالأحزان وكثافة الانكسارات، وإنما يجيئون محملين بصفاتهم الجوهرية ( العفوية والبراءة والحرية ، والإصرار على نيل اللون الأبيض).

وفي قصته «الماء.. الماء.. الماء»، ينكسر الأب الشيخ حين يحتجب المطر، وتمنع عنه البلدية» ماطور» نزع الماء من البئر لأكثر من المدة المحددة، فيجف الزرع ويأتي الموت: قال أحد الأطفال لأبيه:

ـ ه ل لن يأتي المطر يا أبي؟

ـ نعم .. الموسم انتهى!

...................

بكى الماء ، ومسح عيني الرياح، وقام الابن الأكبر ومسح عينيّ والده الشيخ.

وقام الأطفال...» ( من مجموعة الوجه الذي من ماء ـ ص 23)

وبرغم ما نعرفه من أن النهايات المفتوحة في الإبداع تظل باباً مشرعاً على كل الاحتمالات، إلا أن استخدام القاص للفعل «قام» في أول الجملة، و وضعه نقاطاً تحتمل تأويلنا، تشجعنا على القول بأن الأطفال قد قاموا، لا ليمسحوا الدمعة من عيني والدهم الشيخ، وإنما لكي يرفضوا ـ بطريقتهم الخاصة ـ هذا الوضع!

وفي قصة « الواحدون»، سنجد تشكيلا آخر لرمزية أطفال المستقبل، حيث نراهم ينبتون من خلال لحظة يأسٍ انتحر فيها أحد أصدقاء السارد، ورآه يحمل بنفسه، جثته إلى مقبرة الليل، وتبعه آخرون من أمكنة عديدة، ليقف السارد على المشهد قائلاً:

« توقّفتُ نازفاً كبكاء:

ومن بعيد، لاحت نساء كأشجار متفرقة، كنّ يحملن الجثث ويمشين في الظلّ... غير أن واحدة أو أخرى أو أخرى كذلك، ...كانت تكوّر يديها على انتفاخ غيمة هطلى في بطنها، وتجلس منتظرة.

و ركضتُ إلى عيون الأطفال» ( من مجموعة ج ي م ـ ص 19 ـ البحرين عام 2002م)

الطفولة: الزمن والشيب:

يقول الشاعر العراقي سعدي يوسف :

أيها الوطن الأولُ

إننا نذبلُ

يدرك الشيب أبناءنا

أيها الوطن المقبلُ

و تعميقاً ليوتوبيا الطفولة التي تشتعل في فضاءات قصصه، نجد جبير يضمّن هذا الأفق - الذي خطّه سعدي- في وجدان أطفال نصوصه، لنراهم وقد هرموا في طفولتهم، أسىً علينا ، وحزناً على مآلاتهم المقبلة، فنرى الطفل في قصة «شغاف النخيل» قد صار شيخاً هرماً، حين زار مزرعة جده فرأى قبر النخلة و أحزان الزمن الطويل على شواهدها، حيث يشير السارد إلى ذلك بقوله: « تلفتّ إبني الهرِم إلى كل الجهات، منصتاً إلى عويل الأيام الممتد عبر حقب تتلاحق»

كما سنقف على تلك الحالة في قصة « أولاد الحيوانات» والتي سنعرض لها في فقرة لاحقة.

أما الزمن فيمكن أن نتلمسه بحرقة في قصة « أطفال» حين نجد عبد الله ( الصغير) وهو يبكي كل يوم، لأنه لا يجد وقتاً ليلعب بلعبته، حيث يجد أباه (في اليوم الأول ) ينافسه عليها، وفي اليوم الثاني يجد أنه صار كبيراً عليها، وفي اليوم الثالث نراه يركض في الشوارع ليشتري لابنه ( الصغير ) لعبة جديدة!

وهذا النص ليس وصفاً ولا سردا لحكاية عبد الله الصغير ، وإنما مرافعة شعرية ضد سرعة الزمن الذي قضى على بهجة طفولته، وأحاله إلى أب في ثلاثة أيام! ( مجموعة قصص صغيرة – ص 24).

وسوف يتعرف قارئ نصوص جبير على حالات فنية مشابهة في مجموعاته، حيث نقف على قسوة الزمن في قصة «ثلاثة» والتي سأوردها كما هي : « مشى بنا القطار، تتراكض الأيام من النافذة، قهقه طفلي الجالس خلفي فرحاً بركض الأشجار، التفتّ إليه فإذا هو أبي يملأ كرسيه بالبكاء.» ( مجموعة قصص صغيرة- ص 7)

الطفل العرّاف:

نقرأ في قصة الجراد ( ص9ـ مجموعة الوجه الذي من ماء)

« كنا نحن ( أطفال القرية) نلعب في ملعبنا.. تختفي الشمس .. تقترب الغيوم.. ينتفض (سين) ، ويهم بالهرب...يقبض عليه رجل ويقول له : أنت تقول يا شيطان أن الخطر يأتي من فوق». يصرّ ( سين ) على إجابته، ثم يأتي الجراد الذي يتكشّف عن أنه قد تحول إلى أفاعٍ و طائرات!!

ويتأكد هذا التوظيف للجراد و للطفل العرّاف في قصة « أولاد الحيوانات» ( ص20ـ مجموعة ج ي م)

حين يتطلع الناس إلى السماء ، فيرون أشياء كالجراد، أو كالنمل الطائر.. أو الحيوانات الطائرة، ويتساءلون : ما هذه الأشياء؟

« كان أمامنا في الفلاة الكثير من حيواناتنا التي ترعى في الفلاة.. أما الذين خرجوا من تلك الحيوانات ، فقد صار الأطفال يطلقون عليهم فيما بعد: أولاد الحيوانات»!

تلك طائرات وجنود عام 1990م التي غطت سماء المنطقة واحتلت فيافيها، ولعل هذان النصان ( الجراد و أولاد الحيوانات) يكادان أن يكونا من القصص القليلة التي التفت فيها جبير إلى قضايا الكوارث الكبرى الحربية والسياسية التي مرت بها المنطقة العربية، ولكنه يشتغل عليها في أعماله بطريقة مختلفة، تبتعد عن الكنائية المباشرة أو الشعارية و يذهب لاستخدام أسلوبه الاستعاري الذي يحتمل التهكم والسخرية والرمز، فنرى الأطفال - بعفوية ترتبط بمخيالهم - يطلقون على الجنود الخارجين من الآلات التي تشبه الحيوانات لقب « أولاد الحيوانات»، ولكن هذه التسمية تحمل أبعادها المكوِّنة لرؤية وموقف الكاتب مما يجري.

« يقول طفل: كنت ألعب ببعض الأحجار على التراب، فتوقف اثنان من» أولاد الحيوانات» ....

وقال أحد أولاد الحيوانات لصاحبه: ماذا يفعل هذا الطفل؟

أجابه: أما سمعته يقول: إنه يلعب ببعض الأحجار؟

قال الآخر : هل نأكله

ـ هيا ، يا له من طفل! أنظر ما أكثر الشيب في لحيته»!!

ويتم توظيف الطفل/ الطفولة هنا وفق مستويات متعددة، يبرز فيها الطفل كعراف حين سك التسمية، وتنبأ بأن ه ؤلاء القادمين من الفضاء والبراري لا ينطوون على الصفات البشرية الأليفة، لأنهم كجنود غزاة، أقرب في وظائفهم إلى التوحش والقتل. كما يمكننا القول بأن الطفل وهو يلعب بالحجارة قد استثار في الجندي استذكار تجربته في التعامل مع أطفال الحجارة في فلسطين، وأن هذا الجندي ر بما كان صهيونيا أيضاً!

وهناك إمكانات تأويلية يفتحها النص أمامنا للقول بأن الطفل قد هرِم من أهوال الأزمة، أو أن الغزاة لم يعودوا يرون الناس كلهم في هذا المكان إلا كائنات صغيرة كأنها أطفال يسهل الإمساك بهم وأكلهم ، كما أشار به الجندي على صاحبه!!

الدمام

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة