Culture Magazine Thursday  16/05/2013 G Issue 406
فضاءات
الخميس 6 ,رجب 1434   العدد  406
 
الجنون في منطقة المفاهيم في الثقافة العربية «4»
د. أحمد بن علي آل مريع

 

المستوى الثالث

من توصيفات الجنون:

تفصح التوصيفات في هذا المستوى عن دلالات المفاهيم السابقة، وتأتي بصفتها نتيجة لها، أو نتيجة للفهم الذي صدرت عنه! وهو ما تُعبر عنه بعض المدوّنات حين تُعرّف الجنون بأنه:

- «زوال الشعور من القلب مع بقاء الحركة والقوة في الأعضاء».

- «زوال الاستشعار من القلب مع بقاء الحركة والقوة في الأعضاء».

ويُقصد بزوال الاستشعار أو الشعور غياب الإدراك.. وغياب الإدراك يعني أن المجنون عاجز عن إنشاء التواصل مع محيطه، فهو منبت عنه.. فالمجنون رهن لعالمه ومعتقداته، غائب عما حوله، عاجز عن التواصل معه والإحساس به، ولذلك كان المجنون في عماية دائمة، لانفصال أدوات الاستشعار لديه عن عملية الإدراك.

والتوصيف في هذا المستوى يكشف عن تموضع الجنون؛ إذ يقدم الجنون من خلال إشكال: الوجود والعدم - الحضور والغيبة، فهو حاضر وهو في الوقت ذاته غائب! وهو موجود وهو في الوقت نفسه معدوم! وهذا الحضور مادي مجرد من الاستشعار والمعرفة.. وهذا الحضور الجسدي ليس حضورًا ضعيفًا، بل حضورٌ صاخبٌ موصوف بالحركة وبالقوة، أي: تجسُّد حقيقيٌّ للجسد المادي وللأعضاء، لكن مع انتفاء أثرها ونفعها.

والحضور الجسدي دون شعور - إدراك سيكون حضورًا ناقصًا: يتصف بالعجز، وبالتمزق و»الانفصام» بينه وبين الواقع من جهة، وبينه وبين بعضه بعضًا من جهة أخرى، وسيكون حضورًا صادمًا ومخالفًا مزعجًا، ومنقطعًا عمّا حوله.. ولذا تسعى المجتمعات إلى السيطرة على ذلك الحضور الناتئ وإخضاعه.

إنّ الشعور في عُرف الثقافة العربية، هو الحدّ الأدنى من القدرات العقلية والمعرفية، وإذا وصف الإنسان بأنه لا شعور له فإنه يكون حينئذٍ قد انحط إلى رتبة الحيوان، لأنه بانعدام الشعور تنعدم القدرة على التفكير.

و»ليس في الأحياء إلا ما هو شاعر؛ فكل حيّ له شعور بحسبه، وكلّما قويت الحياة قوي شعورها». فالإنسان والحيوان مطلقاً موصوفان بأنهما كائنات ذات شعور؛ لكن يمتاز الإنسان بأنه تصدر عنه حركاتٌ ثلاث: فكرية وقولية وفعلية.. والحيوان لا تصدر عنه إلا حركة فعلية مكانية؛ عن طلب منه وعن شعور بحسبه، ولكن تنتفي عنده: الحركة الفكرية، والحركة القولية، وتبقى الحركة الفعلية المكانية.. وأما النبات فإنه لا يوصف بالعلم ولا بالشعور؛ لأنه لا إرادة له فحركته عن غير طلب منه، فانعدام الشعور هو - في حقيقة - الأمر انعدام لمعنى الحياة!

ولذلك عدّ أبو هلال العسكري: «الذمّ للإنسان بأنه: لا يشعر أشد مبالغة من ذمه بأنه لا يعلم؛ لأنه إذا قال: لا يشعر؛ فكأنه أخرجه إلى معنى الحمار؟! وكأنه قال: لا يعلم من وجه واضح ولا خفيّ.. وهو كقولك: لا يحس، وهذا قول من يقول: إنّ الشعور هو أن يدرك بالمشاعر.. وهي: الحواس، كما أن الإحساس هو الإدراك بالحاسة».

فالمشاعـر هي: البوابة الموضوعية الأولى للإدراك، ولكن لا يترتب على الاستشعار (الإدراك بالمشاعر) تحقق العمل العقلي، ولذلك قيل إنّ: «القوةَ النَّاطقة لا تدخل تحت المشاعر إلا بضربٍ من التَّكلف».

في هذا المستوى تنتقل التوصيفات إلى دائرة القيمة بصورة قاطعة أكثر من الوصف المحايد! ونقصد بالانتقال إلى القيمة: تحول توصيف الجنون من «التحديد» و»التعيين» إلى إرسال الأحكام، التي تجعل من فعل الشيء أو من عدمه قيمة فاعلة في السلوك.

فالقيمة: طريقة في الوجود! أو في السلوك، تعترف بها جماعة على أنها مثال يُحتذى، وتجعل الأفراد، الذين تُنْسَب إليهم مرغوبًا فيهم، أو شأنهم مقدر خير تقدير.. وبذلك تكوّن في نهاية المطاف علامةً مائزة، قادرة على إنتاج الدلالة الثقافية.

إنَّ التوصيفات السابقة تعين القيمة وتوجه إليها، والقيمة تتمثَّل في: «الأحكام التي يصدرها الفرد بالتفضيل أو عدم التفضيل للموضوعات أو الأشياء.. وذلك في ضوء تقييمه أو تقديره لهذه الموضوعات أو الأشياء.. وتتم هذه العملية من خلال التفاعل بين الفرد بمعارفه وخبراته، وبين ممثلي الإطار الحضاري الذي يعيش فيه، ويكتسب من خلاله هذه الخبرات والمعارف».

وبما أن القيمة سمات أخلاقية تتحدد ثقافياً بأنها مرغوبٌ فيها، فهي تشكّل حقائق أساسية في البناء الاجتماعي، ومبادئ مجردة وعامة للسلوك يشعر أعضاء الجماعة نحوها بالارتباط الانفعالي القوي، كما يوفر لهم مستوى للحكم على الأفعال والأهداف بخاصة....

والقيمة تندرج ضمن المعتقدات التي يصعب تفكيكها؛ ولذلك تتسم بقدر من الاستقرار النسبي، وتمثل موجهات للأشخاص نحو غايات أو وسائل لتحقيقها، أو أنماط سلوكية يختارونها ويفضلونها، وتفصح عن نفسها في: المواقف، والاتجاهات، والسلوك اللفظي، والسلوك الفعلي، والعواطف، التي يكوّنها الأفراد نحو موضوعات معينة، وبذلك تتكوّن لها (سلطة) خاصة داخلية (وازع ذاتي) موجه للأفراد، وباعث على فعل السلوك أو الامتناع عنه دون الحاجة إلى العنف الخارجي.

إنّ نفي القدرة على الاستشعار أو الشعور عن المجنون، مع إثبات القوة والحركة للأعضاء؛ يقرر الإشكالية الكبرى لوجود الجنون في الثقافة العالِمة، كما يقرر عبقرية الثقافة - كناجز حضاري - في تعاملها مع أشكال الشذوذ المختلفة (= الجنون)، وقدرتها على اختزال هويته إلى قالب (=حيلة) الـ(الحضور - الغياب)، فحضوره مادي: عضوي - فيزيائي يوصف بالقوة والحركة، ولكنه على صعيد القدرة على الإدراك (الشعور - الاستشعار) وإنتاج المعنى والفكرة والنطق غائب؛ إذ كيف يكون حاضرًا من لا نور له ولا شعور؟!

إنّ تنكُّب الأفراد للمنهج الواضح (المعياري - الاجتماعي) حالة ثقافية واقعة لا يمكن تغييبها! لكن يمكن الالتفاف الثقافي المؤسسي عليها، لتكون هذه الواقعة الثقافية ضلالة دون هدى ولا أثر (= دون خطاب)، وليكون الحضور الصاخب لها حضورًا جسديًّا يفقد الحد الأدنى من المعرفة والخبرة؛ لأنه يغيب عنه الحد الأدنى من الاستشعار! ومن ثم فهو حضور كالغياب لا معنى له، ولا خوف منه على الأنساق الثقافية المهيمنة، وهذا ما يظهر أشد الظهور في السياقات السياسية خصوصاًً، وفي لحظات الاصطدام الثقافية التاريخية الكبرى، التي تشهد تحولات شديدة في الأنظمة والنماذج، أو تنتهي إلى قطيعة معرفية كبيرة بين مرحلتين (ما قبل) (وما بعد) وسنقف بعون الله تعالى على نماذج من ذلك في معالجات قادمة.

الجنون وجود ولكنه لا ينتمي للوجود الواعي، لأنه وجود يفتقر إلى القدرة على المعرفة.. وهو لذلك يخالف معنى «الوجود الثقافي - الاجتماعي» الذي يحترم مكتسباته، ويراكم تجاربه، ويسترفد خبراته.

1 - الجنون حضور مجزَّأ (فصامي) تنفصم فيه عرى التواصل بين القلب والعقل، وبين المشاعر والحواس، وبين الإدراك والتعبير، وبين صور الوجود وتمثُّلها، وبين المعرفة العامة والتجربة الخاصة، ولذلك فهو - بالضرورة - محفوف بالتشظّي والتمزّق بين الحضور والغياب..

2 - الجنون وجود يتمتع بالحركة والقوة، لكنه وجود ناشز، لا يخضع للنظام؛ فالقوة في الجسد مع غياب القدرة على الرؤية والاستشعار، تعني الارتياب والإزعاج والمروق والمرادة.

3 - هذا الفهم - أيضًا - على الرغم من دقته ووضوح ما يقول - واسع يستغرق كل الصور الثقافية أو العيادية للجنون.

أبها

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة