Culture Magazine Thursday  16/05/2013 G Issue 406
فضاءات
الخميس 6 ,رجب 1434   العدد  406
 
أدب (نصف الكُمّ)!
يوسف عبد العزيز

 

قبلَ عقود لم يكن ظهور اسم شعريّ وانتشاره في عالم الأدب بالأمر السّهل. كان ذلك يتطلّب إنجاز مجموعة من الشّروط، التي كان على رأسها قوّة الموهبة الشّعريّة وأصالتها، هذا بالإضافة إلى موقع الشاعر من حركة الجماهير، وانخراطه في الهموم والقضايا التي تعاني منها هذه الجماهير.

في هذا الصّدد، لا أزال أذكر الأحاديث التي كان يسردها على مسمعي، الشاعر الفلسطيني المرحوم (خليل زقطان)، صاحب ديوان (صوت الجياع)، حين انطلقت موهبته الشعرية بعد النّكبة، كان يقول: «كنت أسهر طوال الليل في تأليف القصيدة، حتى إذا اكتملت أخذتُ أردّد أبياتها، وأتخيّل نفسي كيف سأقرأها بين أيدي الجماهير. في اليوم التّالي كنتُ أنخرط في المظاهرة، فأركب دابّةً أو أعتلي مكاناً مرتفعاً لأقرأ القصيدة، كان رأي الجماهير مهمّاً في توجيه بوصلتي الشعرية».

كانت المجلات الأدبية العربية التي تنشر الشعر قليلة، وقليلة جدّاً، وكان الشاعر حين يرسل قصيدته إلى إحدى هذه المجلات يضع يده على قلبه، خوفاً من عدم نشرها أو تأجيل هذا النشر. طباعة المجموعة الشّعريّة لم تكن بالأمر الهيّن أيضاً، كان أولئك الذين تطبع لهم دور النشر في ذلك الوقت من ذلك الطّراز المتفوّق من الشعراء الذين أثبتوا جدارتهم في الساحة الشعرية.

في الوقت الحاضر انقلبت الأمور رأساً على عقب، وانتشرت المجلات والصّحف انتشاراً واسعاً. أمّا دور النشر فقد زاد عددها أضعافاً مضاعفة، وأصبحت تنشر ما هبّ ودبّ طالما توفّرت لها الفلوس. إلى هنا والأمور تبدو محتملة، حتى ظهرت الفضائيّات ثمّ الإنترنت تالياً، حيث دخل كلّ شيء في حياتنا، في نفق طويل من البلبلة. قديماً كانت عندنا النخبة الكاتبة، والآن أصبح لدينا الشعب الكاتب. جيل جديد (إنترنتّي) ظهر من المبدعين، وجماعات (فيس بوكيّة) عريضة وغير (فيس بوكيّة) أخذت تتخيّل أنها تحتلّ مكانها في عالم (الأدب)!

لم يعد أمام (الشاعر) الذي ينوي أن يخوض معمعان الشهرة، غير أن يقوم بعدد من الحركات البهلوانية، كأن يهاجم الدين، أو كأن يتبرّم من البطش القائم في وطنه ويلتجئ إلى دولة غربية مثلاً، حيث يتم الاحتفاء به، ويُستَقبَل استقبال الفاتحين! مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الوصول إلى الشهرة لم يعد يتطلّب أيّ شرط من الشروط الإبداعيّة المعروفة، فقد تكون تجربة الشاعر تجربة تافهة لا تساوي شيئاً، وقد تكون لغته العربية لغة بائسة مليئة بالأخطاء النّحوية والإملائية.

مع مرور الوقت، ومع حدوث هذه التّحوّلات العظيمة على مستوى وسائل النّشر اختلط الحابل بالنّابل، أمّا النتيجة المترتّبة على كلّ ذلك الشّواش فتمثّلت بانحسار دائرة الإبداع الحقيقي، واتّساع رقعة الأدب (نصف الكُمّ). ولنعاين الأمور بشكل دقيق نقول لقد جرى ما يشبه عمليّة التّعتيم على الإبداع الحقيقي، في الوقت نفسه الذي تمّ فيه تسليط الضّوء على الكتابة (الإنترنتيّة) الضّحلة.

زمن طويل سيمرّ قبل أن يتم التّعامل مع الإنترنت تعاملاً معقولاً، وتستقرّ بالتّالي شؤون الكتابة، فمثل هذا الفضاء المثقوب ببلايين الموجات لا يمكن ضبطه أو السيطرة عليه، هذا بالإضافة إلى أنّ هناك أجيالاً جديدة من الكمبيوترات والأجهزة والهواتف، يتمّ إنتاجها وطرحها بين يديّ المواطن.

الأثر الآخر المدمّر على الكتابة وعلى الفنّ، يتمثّل في هذه الفضائحية الشّاملة التي تشيعها ثورة الاتّصالات على مستوى الكوكب. لقد انتهى زمن الأساطير إلى الأبد، وبات كلّ شيء لدينا مراقباً ومعروفاً. لقد أصبح بإمكانك وأنت تجلس في بيتك أن تتلصّص على أيّ مكان تريده. طبعاً هذه الفضائحية التي تحدث هي ضد الفن بالضرورة، الذي هو ابن عتمة وظلال.

Yousef_7aifa@yahoo.com فلسطين

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة