Saturday 16/11/2013 Issue 417 السبت 12 ,محرم 1435 العدد
16/11/2013

الوصفي والتقويمي في رؤية طه حسين للثقافة العربية

الأسئلة التي تثيرها كتب طه حسين ومقالاته تجاه الثقافة إجمالاً، وتجاه الثقافة العربية، خصوصاً، هي أسئلة تقصد الكشف عن هذه الثقافة من حيث هي مادة معرفية، ومن حيث هي فعل ثقافي. ومادة المعرفة التي تنتُج عن الثقافة كامنة لدى طه حسين في جهد التأريخ لها والوصف والتحليل، وكاشفة عن من ينتجها وما ينتجها، أي أنها مادة لمعرفة المؤلفين وبيئاتهم وعصورهم ولمعرفة الثقافة في قيمها ونماذجها ومعانيها وأشكالها. أما مادة الفعل الثقافي فهي ما ينطوي عليه وصف طه حسين وتاريخه وتحليله للمنتجات الثقافية من قيمة تتمايز بها الثقافات ويتمايز بها المثقفون وتتمايز بها العصور والبيئات.

والأهمية التي يشكلها طه حسين في هذا الصدد يمكن حسابها بكثافة جهده واتساعه، وبإلحاحه على المنهجية، وبجرأته وصلابته في مواجهة بيئة تقليدية كسولة وعدوانية تجاه المقولات المغايرة للمألوف في دراسة الثقافة والأدب أو ما شئت. ولكنه أكثر أهمية حين نستحضر جهده في لحظتنا الراهنة، فنجد الحاجة إلى النظر في مقولاته، وإثارة الأسئلة نفسها التي أثارها، ومواجهة مشكلة التخلف العربي الإسلامي وإخفاق مشاريع النهضة هنا وهناك. وذلك في موازاة أطروحات منهجية أخرى جديدة ما تزال تتوالد وتتكاثر وتكرر الأسئلة ذاتها وتتفنن في الإجابة عليها، وتبدأ من كثير من شكوى طه حسين وشجونه تجاه الثقافة العربية مثلما تنتهي إليها أو إلى أكثر منها.

***

كانت الرؤية التي رسمها ابن خلدون للعرب في مقدمته، مثيرة لأسئلة ثقافية -لا عرقية- تجاه العرب، وقد غدت تلك الأسئلة - حديثاً - مادة تشارك لدى عديد من الباحثين النقاد في استمداد مادة نقدية تجاه الثقافة العربية تحيل على أعرابيتها ووحشيتها وقبائليتها ومجافاتها للحضارة والمدنية والنظام والمنطق. وكان الشعر –لدى عديد منهم- بحكم موقعه منها واستمداد اللغة والأخلاق والمعاني والتصورات منه في لحظة نشوء علومها اللغوية والدينية، مركز الدلالة عليها والامتداد الزمني لها واتصالها. وقد أولى طه حسين ابنَ خلدون من جهة والشعر العربي من جهة أخرى اهتمامه، الذي دلَّل به على الاعتداد بالعرب وتخليص الرؤية إليهم من الشعوبية ومواريث التعصب ضدهم، ولكنه بالقدر نفسه اهتمام لم يبرأ من أسئلة نقدية ثقافية، تجاوز الوصف للثقافة إلى التقويم لها، والطموح بها إلى فعل يوسِّع من آفاقها ويطوِّرها ويغرسها في ضمير أكثر وعياً بالمسؤولية وشعوراً بالحرية والاستقلال والفردية.

لقد فنّد طه حسين -وكان أحد أقدم الدارسين لابن خلدون وأبرزهم- ما ألح ابن خلدون على تأكيده من إحالة العرب على ثقافة الفوضى والخراب والوحشية، وتأصيلهم فيها بحيث ظهروا وكأنهم من دون أي قابلية للتخلص مما دمغهم به. ولم يعتذر طه حسين لابن خلدون - كما فعل بعض الدارسين - بأن مقصده الأعراب (أي البدو) لا جنس العرب، ولم يشر إلى ما يمكن أن يكون قصداً له بغير التعميم على جنس العرب، نتج عنه لبس على قارئه. وذلك –على ما يبدو- لأنه يرى أن ابن خلدون لا يجهل الفرق بين العرب والأعراب، والأعراب ليسوا طبيعة مستقلة عن التاريخ بل طور اجتماعي تاريخي، عرفته سائر الأمم.

***

وفي رد طه حسين على ابن خلدون مادة تاريخية للثقافة العربية وفيها تقويم للفعل الثقافي العربي، وذلك ما يجعل من رده على ابن خلدون مواجهة لما تعانيه الثقافة العربية في لحظته، خصوصاً حين نتنبه إلى إشارة عبد الرزاق عيد إلى معارضة طه حسين لدعوة الحزب الوطني آنذاك إلى الخلافة الإسلامية في ظل السلطنة العثمانية، بل مواجهة مع دعاوى الاستعمار التي تضاعف إحساس الشعوب بتخلفها وحاجتها إلى من ينقذها، ومع قاعدة شعبية متسعة كانت بلا حس قومي وكانت ترى في الخضوع لحكم الأتراك الظلامي الذي استغل اسم الخلافة بدلالتها الدينية، وجوباً دينياً.

وقد ابتدأ طه حسين رده بالعودة إلى لحظة سابقة على ابن خلدون نشأ منها التعسُّف بحق العرب في القرون الهجرية الأولى، وهو انتقام الفرس من إخضاع العرب لهم انتقاماً جعلهم لا يدخرون وسعاً في تشويه العرب. وذهب يذكر عديد الشعراء والمؤلفين الذين نادوا بتفوق الفرس على العرب، وتنادوا إلى ثلبهم. ويذكر اتساع دائرة الشعوبية وتمكنها في الدولة العباسية. ثم احتقار العرب من الترك بعد أن دالت لهم الدولة في عهد المعتصم، والانتهاء زمن ابن خلدون إلى تراجع سلطان العرب السياسي في الشرق واشتداد أنينهم من الحرب عليهم في الأندلس. ولذلك لم يكن ازدراء ابن خلدون للعرب - فيما يرى طه حسين- غريباً، لاسيما حين يذكر أن ابن خلدون نشأ في ظل الأسر البربرية المجاهرة بعدائها للعرب.

وقد نفى طه حسين استدلالات ابن خلدون ضد العرب. فما يدعيه من عجز العرب عن التغلب إلا على البسائط ينسى أن العرب فتحوا فارس واستقروا فيها. وقول ابن خلدون إن العرب لا يتغلبون على قطر إلا أصابه الخراب هو الآخر موضوع نسيان لفتوحات العرب في فارس والشام وإفريقية وأسبانيا لم تؤد إلى خراب هذه البلاد، وكان على ابن خلدون ألا ينسى أوامر الخلفاء بمعاملة المغلوبين أحسن معاملة، ومعاهدة الخليفة عمر مع أهل بيت المقدس. ولم يترك طه حسين لابن خلدون أن يصف العرب بالعجز عن تأسيس الدولة إلا من طريق أثر ديني، فابن خلدون نفسه كثيرا ما يذكر اليمنيين الأقدمين بالإعجاب، وإصلاحات حكومات الخلفاء في سياسة الملك، دليل مهارة سياسية. ثم يدعو طه حسين إلى مقارنة العدل والتقدم الذي أحدثه العرب حين تولوا الحكم في الحكومات الإسلامية، بما ترتب على حكم الترك –مثلاً- حين تولوا الحكم في الحكومات ذاتها، من نتائج الإبادة والخراب.

ويتساءل عن تلك القبائل البدوية البعيدة عن كل مجتمع متمدن التي خرجت من القفار لتفرض دينها ولغتها على قسم كبير من العالم الروماني والفارسي، ألا يجد ابن خلدون أعدل مما حكم عليها به؟! والخطأ نفسه - لدى طه حسين- يمكن أن نراه إذا استعنا على البساطة والخشونة اللتين اقترنتا بأخلاق الرومان في عصر الجمهورية الأولى لنشرح ما أدوا إلى الحضارة في عهد الإمبراطورية. وينبِّه طه حسين إلى حادثة بعينها عمَّمها ابن خلدون على العرب وتاريخهم، وتلك الحادثة هي تخريب بعض البدو الأعراب لإفريقية الشمالية في القرن الخامس. لكنه ينبِّه إلى أن هذه الحادثة التي يقر بها، إنما حدثت من جماعة لم تتلق تربية ولا نظاماً تنفيذا لأمر خليفة مصر الفاطمي بالانتقام من أسرة بربرية تمردت عليه. وتعميم ابن خلدون الاستدلال على ثقافة العرب بهذه الحادثة، هو ديدن ابن خلدون –فيما يرى طه حسين- الذي يتراءى له - أيضاً- في تعميمه التحكمي لحسبان العصبية مرجع القبيلة.

***

ونحن لا نجد في رد طه حسين رداً فحسب، على التعميم والتجريد في نظرة ابن خلدون تجاه العرب، أو على العنصرية والتمييز القومي والأجناسي الذي انطوت عليه مقدمته ضدهم، بل نجد رداً على الحتميات الثقافية واللغوية والإقليمية والعرقية، تلك التي تقولب أمة أو ثقافة أو لغة في قالب، وتسجنها في تصور، وتخرجها من التفاعل التاريخي. ولقد استطاع طه حسين برده هذا أن يدحض مقولات ابن خلدون بما يخالفها من شواهد واقعية وتاريخية، وأن يسفِّهها بما تنبني عليه من هشاشة منطقية، وضيق في النظرة، على الرغم من أنه كان مدار تقدير طه حسين وإكباره في غير موضع.

ولئن كان الرد مفعما بالاعتداد بالعرب، فإنه ينطوي على ألم من تضاؤل سلطانهم في التاريخ الإسلامي، وهو ألم ينجلي في التقابل بين المدى الذي أحدثوا فيه تأثيرهم وإشعاعهم بقوة وفي فترات قصيرة، والخسران والانحسار الذي اضطروا إليه. وذلك موضع سؤال ثقافي لم يبح به طه حسين في رده على ابن خلدون، لكنه كان سؤالاً محورياً في جوانب عديدة من كتابات طه حسين عن الثقافة العربية وعلاقتها بتضاؤل دور المثقف فيها الذي لم يكن من المسؤولية والاستقلال والعقلانية ما يؤهِّله لإحداث دور في تطوير الفعل الثقافي النقدي والعقلاني وتجديده. وهي علاقة لا تنفصم - في تاريخ الثقافة العربية - عن استبداد السلطة الوراثية وتفتتها وانقسامها المستمر، وعدم مأسستها بقوانين في سلطات شعبية وتداولية بمنجاة من التعصب المتبادل. وطه حسين يصدر في ذلك عن وجهة نقدية مغايرة لمنظور ابن خلدون الذي يذهب إلى القول بالدورات الحضارية الآفلة في النهاية، وأنه «إذا نزل الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع» وهذه حتمية خلدونية تغلق المستقبل وتحاصر فكرة النهضة والتقدم.

ولقد ظل موقف طه حسين المضاد للتعميم والخارج عن دائرة الحتميات المختلفة، حتى ما صار يعرف بالأنساق البنائية، ثابتاً في رؤيته للثقافة. وكان تقريره علاقتها المرآوية بالمجتمعات والأفراد مجاوراً لتصور آخر لديه يرى فاعلية الثقافة ويتطلب نموذجية أخلاقية للمثقف يمحضها القيمة الثقافية، ويجتهد في فرزها بالموازنة بين المنتجين للثقافة، أو بين فترات وأخرى في حياتهم. ولم يقتصر الأمر لديه على الموازنة والمقايسة في إطار الثقافة العربية بل كانت موازنته بينها وبين الثقافة الإغريقية من جهة، وبينها وبين الثقافة الأوربية من جهة أخرى، وجهاً لاكتشاف العلاقة بين الثقافة وإطارها الحضاري، ووجهاً للاستدلال على القيمة الثقافية التي تفوق وتمتاز في تصوراتها المعرفية وقيمها الجمالية الفنية ومواقفها المسؤولة ومعانيها.

***

وليست المساحة البارزة التي يحتلها الشعر في مؤلفات طه حسين، إلا نتيجة للدور الذي يمثِّله في الثقافة العربية، وإحساسه بأنه الأكثر دلالة على الوعي العربي والتأثير فيه. ولذلك كانت مساحة اهتمامه به مساوية لبروزه وهيمنته في الثقافة العربية العالمة، فلم تنل ألوان السرد القديم أو الحديث من عنايته قليلا أو كثيراً من عنايته بالشعر ودراساته له، ولم تبلغ عنايته بدراسة ألوان المعارف النقدية الأدبية والبلاغية واللغوية وغيره ا ما بلغته عنايته بالشعر. وقد يبدو الشعر في دراسات طه حسين متناً لاستخلاص معرفة تاريخية بالعصور التي يمثلها ويعبر عنها: معرفة بالمجتمع والسياسة والبيئة والثقافة واللغة، ومعرفة بالشعراء وما يميز طبائعهم وأخلاقهم، ويطبع حياتهم وتصوراتهم، وتضطرب به علاقاتهم بالسلطة والمجتمع، ويعتورهم من أحداث وتحولات... الخ ولكنها معرفة بالشعر أو من أجله قبل أن تكون معرفة بسياقاته تلك وأسبابه. ولذلك فإنها معرفة لا تكتمل - لدى طه حسين - من دون قيمة تميِّز الشعر عن غيره من الأجناس وأنواع الإنتاج العقلي، وتميِّز الأشعار والقصائد والشعراء. فهي معرفة بالشعر من حيث هو أداة معرفة بالثقافة العربية وأداة فعل لها وصياغة لوعيها.

***

إن الشعر العربي يخضع لدى طه حسين للموازنة عبر سياقات مختلفة تكشف - فيما تكشف- عن مكانته الثقافية وقيمته. وتنجلي تلك المكانة عبر الموازنة بين الشعر والفلسفة، وبين الشعر الغنائي والشعر التمثيلي، ويستلزم ذلك الموازنة بين المجتمع العربي والمجتمع اليوناني، أي الإطلال على المحلي من نافذة الأجنبي، أو الرؤية إلى الذات من واقع الآخر المغاير، وهذه طريقة لاكتشاف الذات لا تتيحها الرؤية إليها في ذاتها. وما نكتشفه عبر رؤية طه حسين هذه يقفنا على قصور الشعر العربي إذا ما ترامينا به أو طمحنا معه إلى الدلالة على أفق عقلاني وثقافي أكثر نضجاً ورشداً وعمقاً فنياً، وأدعى إلى أن يرى المجتمع به صورة صادقة له ومعاني ومثلاً جديدة.

وتبدأ الموازنة بعرض طه حسين لمرحلتين تاريخيتين لدى اليونان، الأولى مرحلة الشعر والتالية مرحلة الفلسفة. فقد «كانت قيادة الفكر إلى الشعراء في العصور الأولى من حياة الأمة اليونانية وغيرها من الأمم التي تشبهها قليلاً أو كثيراً» ثم «انتقلت قيادة الفكر من الشعراء إلى طائفة أخرى هي طائفة الفلاسفة». وعلى ذلك كانت قيادة الشعر للرأي في العصور الأولى «مظهراً من مظاهر الطفولة الإنسانية وصورة من صور الحياة الساذجة الغليظة». ويلفتنا طول المسافة التاريخية والعقلية التي يعرضها طه حسين للانتقال من طور الشعر إلى طور الفلسفة، إنها مسافة انتقال وتحول لم تحدث في يوم وليلة ولا في عام ولا أعوام، «وإنما احتاجت إلى القرون الطوال، واحتاجت معها إلى أشياء كثيرة نستطيع أن نختصرها في هذه الكلمة الصغيرة وهي كلمة: التطور».

ويذكر التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي حدث في اليونان منذ القرن العاشر قبل الميلاد، وتأديته إلى بروز سلطان العقل نتيجة الاستقرار في الحاضرة والتنازع على الملكية والهيمنة على الطبيعة والحروب وتحول السياسة من ملكية إلى أرستقراطية ثم إلى بروز الفرد وتبلور شخصيته الذي استلزم بروز سلطان العقل.

** ** **

* هامش: قدمت هذه الورقة ضمن الندوة التي نظمتها (في الفترة من 2-4 فبراير) مؤسسة العويس الثقافية بدبي، بمناسبة بمرور أربعين عاماً على وفاة طه حسين.

- الرياض