Culture Magazine Thursday  18/04/2013 G Issue 403
فضاءات
الخميس 8 ,جمادى الآخر 1434   العدد  403
 
الجنون في منطقة المفاهيم في الثقافة العربية «1»
منطقة المفاهيم في الثقافة:
د. أحمد بن علي آل مريع

 

وقفنا في الحلقات السابقة على تلقي الجنون في مؤسسة اللغة، واليوم نعرض لمنطقة أخرى فاعلة، يمكن أن نتعرف من خلالها على التلقي العام للجنون في الثقافة العربية الرسمية في صورة واضحة وجلية، وهي: منطقة المفاهيم، حيث تُمارس الثقافة العالمة حضورها المقنن - المعقلن من خلال العلوم المختلفة، في بناء الخطابات والمعرفة وتوزيعها واستهلاكها على نحو محدد.

فمنطقة المفاهيم هي من جهة تمثلٌ معرفي للتجربة الحضارية - النموذج الثقافي المتجسِّد، وهي من جهة ثانية تأسيس لزاوية النظر، وصياغة لمسافة الرؤية الممكنة، يقول جون سيرل «المعرفة بأسرها، هي: منظوريّة من حيث طبيعتها الجوهريّة، أي: إنَّ الادّعاءات المعرفيّة وتقديراتها تحدث دائمًا في داخل إطار يوفر المصادر المفهوميّة، ويُوصَفُ العالمُ من خلاله ويُفسَّر».

وهذه المنطقة (أي: منطقة المفاهيم) أكثر خضوعًا للتوجيه والهيمنة - كاختيار تاريخي نسبي - من منطقة اللغة، التي تظل مفتوحة على المكوِّن الثقافي بما فيه من تعددية وتراكم ووعي نوعي، وأقدر على التمدد والتوغل في سياقات زمنية ومكانية ومعرفية متعددة ومتجدِّدة. لذلك كتب فوكو عام 1971م يصف المعرفة، فقال: «إنّ المعرفة لم تخلق لأجل الفهم، وإنما لأجل التكسير والحسم»، وهو ما رأى فيه د. عبد العزيز العيادي بيانًا لوهميّة الحياد المعرفي، وإشارة إلى قصور الموقف الفينمنولوجي الساعي إلى إضاءة بِنى الوجود لكشف معناها.. ففي المعرفة تتصارع أهواء ورغبات ومصالح، وعلاقات قوى، فليس مرمى المعرفة هو البحث عن معنى خفي، وذات متسيِّدة، وعن وتيرة تطوّر مستمر، وعن تجلٍ تدريجي لحقيقة كائنة في المستقبل، أو تراجعًا نحو حقيقة كائنة في أصل منسي.

لكن المفاهيم كـ(أجهزة): قادرة على تمثل نمط الانتظام المعرفي في الثقافة العالمة، وإعادة إنتاجه في عبارة موجهة ودالة.. كما تمتاز بقدرتها على اختزال الظواهر المختلفة وتأويلها، ونقلها من المستوى المثالي للثقافة إلى مستوى الرموز، ومنحها القيمة والدلالة المعتبرة.. وعلى الرغم مما يؤكده المشتغلون بالإيديولوجيات الكبرى في التاريخ كالماركسية، من أنّ المفاهيم تغتني وتتطوّر من داخل الثقافة نفسها، إلا أنَّ وظيفتها الكبرى تبقى في العمل على انتقاء الأشياء، من وجهة نظر الممارسة والمعرفة.

ومن ثمّ كانت المفاهيم إحدى الوسائل الفاعلة في: شرعنة الهيمنة الثقافية، ومنحها القبول والفاعلية، فالسلط لا تستمد فاعليتها وقوتها من قدرتها على التأثير فحسب، بل تستمدهما من: منطقها الداخلي، وتماسكها واطرادها، ومن التسليم بها، واستعداد المتلقي للرضوخ لها.. وهذا ما ينسجم مع ما كان قد طرحه قرامشي عن نظرية السلطة، التي ذهب فيها إلى «أنّ السيطرة لا تتم بسبب قوة المسيطر فحسب، ولكنها أيضًا تتمكن منا بسبب قدرتها على جعلنا نقبل بها ونسلم بوجاهتها».

وبالنسبة لنا فتتمثَّل أهمية منطقة المفاهيم في كونها: تقدم مفهوم الجنون الرسمي لسائر المنتمين للثقافة، ومن ثمَّ تحملهم عليه، وتصنع أفق النظر الذي من خلاله تتناسل طائفة من الممارسات: إنتاجًا وتلقيًا، وقبولاً وحظرًا، وتشكّل ضغطًا هائلاً على المتلقي، وتوجّه مستهلكي الثقافة إلى رد فعل واستجابة محددة سلفًا، لذلك كانت إحدى وسائل السلطة في تقنين الواقع، وإعادة إنتاج التاريخ ومراقبته في تحولاته وسيرورته.. ومن يمتلك وجهة النظر فإنه يمتلك حتمًا نصاب الحقيقة..

ولما لـ»منطقة المفاهيم» من أثر كبير وفاعل في تكوين صورة الجنون عند مستهلكي الثقافة ومنتجيها رأيت أهمية أن نقف عليها في الحلقات الثلاث القادمة، لنستقي منها التصور المؤسسي للجنون، والذي سيكون هو التصور الأساس والفاعل في الممارسات الثقافية العالمة.

أبها

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة